إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

الخميس، 1 أبريل 2021

نعمة الماء

 ( نعمة الماء ) 

المعتمدُ بنُ عَبّاد أميرُ أشبيلية في الأندلس كان يعيش حياةً مُترفةً غاية في التنعّم واللذة، طيّباتُ الدنيا تُجلب له، جلس ذات يومٍ هو وزوجته وبناتُه على شُرفَةِ القصر، فرأت زوجتُه أُناسًا يمشون في الطين, فاشتهتْ أن تخوضَ في الطين كما يفعلون، فنُثِرَ الطينُ والزعفران في ساحة القصر، ثمإ عجنوه بماء الورد والمسك والكافور لتخوض به هي وبناته، لتحقق رغبتها

 ثم دارت الأيامُ, وحصل عليه ما حصل, وزال ملكه, وسُجن بسجنِ أغمات في المغرب، واستُذِلَّت بناتُه وعاد مرحومًا بعد أن كان محسودًا، بينما هو مسجونٌ دخلت عليه بناتُه يوم العيد في ملابسَ رثة, معهن المغازل يغزلن الثياب للناس فقال متحسرًا:

فيما مضى كنتَ بالأعياد مسرورًا    فساءك العيدُ في أغمات مأسورًا

تـرى بناتك في الأطمارِ جائعة     يغـزلْن للناس لا يملكْنَ قِطميرًا

برزْن نحـوَك للتسلـيمِ خاشعةً       أبصـارُهنَّ حسيراتٍ مكاسيرًا

يطأْنَ في الطين والأقـدام حافية           كأنهـا لم تطأْ مسكًا وكافورًا

من بات بعدك في ملك يسرّ به         فإنما بـات بالأحـلام مغرورًا

تبرز للأذهان قصة المعتمد في هذه الأيام, ونحن نرى صوراً من الترف وأشكالاً من التباهي وعجائب من التبذير

نعم, نحن أمةٌ نذمُّ الإسراف, كلنا كذلك, نحن قومٌ على لساننا قول الله تعالى ( إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين)

لكنّ الحقيقةَ أن أكثرنا واقعٌ في الإسراف, مُستَقِلٌ ومُستكثر, كلٌ في مجاله.

ولتعلم ذلك فاسمع إلى كلام الراغب الأصفهاني حيث يقول: السّرف تجاوز الحدِّ في كلّ فعل يفعله الإنسان، وإن كان ذلك في الإنفاق أشهر.

ففي الكلام قد يحصل إسراف, وقد نسرف في المدح, وقد نسرف في السهر, وقد نسرف في تضييع الأوقات, وقد يسرف البعض في الدماء, أو في الغيبة, أو غير ذلك.

بيد أننا اليوم لن نعرج على هذا, إنما نتحدث عن الإسراف في المستهلكات من مآكل ومشارب ومقتنيات وحفلات وسفرات

قال ربنا عزوجل (يا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ)

وتأمل كيف جمع ربنا في آيةٍ جملاً من الآداب, وحذّر من الإسراف وأخبر أنه لا يُحب أهله, حينما ذكر قضيتين يقع الإسراف فيهما غالباً: الزينة, والأكل والشرب.

وقال ربنا سبحانه (وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً (26)إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كانُوا إِخْوانَ الشَّياطِينِ وَكانَ الشَّيْطانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً)

وقال في تقرير التوسط المطلوب من المؤمن (وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً)

وقال ذاكراً صفات عباد الرحمن (وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً)

قال ابن القيم: - في قوله تعالى: وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا ) : أي ليسوا بمبذّرين في إنفاقهم فيصرفون فوق الحاجة، ولا بخلاء على أهليهم فيقصّرون في حقّهم، فلا يكفونهم، بل عدولا خيارا، وخير الأمور أوسطها، لا هذا ولا هذا.

عباد الله: ونظرة إلى واقعنا تجلي لك صوراً من الإسراف كبيرة, ونماذجَ خطيرة

وصور الإِسرافِ عديدةٌ, ففي الإجازة وحفلات الزواج, وفي المناسبات والتباهي بها في اللباس والمكان والتجهيزات صور من الإسراف ظاهرة تحصل لدى البعض, مستقلٌ منها ومستكثر, والإسراف فيها مذموم وإن وقعنا فيه

إسرافٌ في المآكل والمشارب, باتت معه كثير من الأسر تلقي من الأطعمة كل يوم ما يُعيّش أسراً, وأُحوج المجتمع معها إلى مشاريع كمشاريع حفظ النعمة ونحوه

تقول الإحصائيات: إن دول الخليج في مقدمة الدول الأكثر استهلاكًا للأغذية، ففي بلادنا هنا  35% من الغذاء يلقى في النفايات المنزلية، أي حوالي ثلاثة عشر مليونِ طنٍّ من المواد الغذائية وبقايا الأطعمة في مكبات النفايات.

ونحن على مقربة من شهر الصوم, تتحدث الإحصائيات أنه أكثر الشهور هدراً للأطعمة وإسرافاً في الولائم

الخطبة الثانية :

ومما جاء في بعضِ كُتُبِ السِّيَرِ.  دخل ابن السَّمَّاكِ يوماً على هارونَ الرشيد، فلما جلسَ بين يديه قال له الرشيدُ: عِظْنِي، ثُم أُتِيَ للرشيد بِقُلَّةِ مِن ماءٍ لِيشْرَب، فقال له ابنُ السماك: على رسلك يا أمير المؤمنين. فنظر إليه الرشيد، فقال ابن السماك : أسألُك بالله يا أميرَ المؤمنين، لو مُنِعتَ هذه الشربةُ، بكمْ كنتَ تشتريها؟ قال: بنصفِ مُلكي. قال: اشربْ هنأك الله، فلما شَرِبَ، قال ابن السماك: أسألُك بالله يا أميرَ المؤمنين، لو مُنِعتَ خروجَ  هذه الشربةِ مِن بدَنِكَ فبماذا كنتَ تشتريها؟ قال : بنصفِ مُلكي ـــ كفى بها من موعظةٍ.. فيها مشاهدةٌ لأيسرِ النعمِ، وإدراكٌ لحقارةِ الدنيا، وإبصارٌ لضعفِ الإنسانِ مهما بلغَ من الرفعةِ والعلو ـــ  قالابن السماك: يأميرَ المؤمنين: إن ملكاً لا تساوي شربةَ ماءٍ وإخراجَهَا، لحريٌ أن لا يُغترَّ بِه

قال صالحُ بنُ الإمامٍ أحمدِ رحمه الله.. كان أبي كلما أخْرَجَ الدَّلْوَ من البئرِ مملوءً حَمدَ اللهَ، فقلتُ له في ذلك فقال: يا بني، أما سمعت الله عز وجل يقول: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَن يَأْتِيكُم بِمَاءٍ مَّعِينٍ} إنْ غارَ الماءُ في بطن الأرضِ وابتعدَ، وعجزتم عن طَلَبِهِ وإخراجِه، فمَن ذا الذي يَقْدِرُ على الإتيانِ بِه غيرَ رب العالمين؟

صورة أخرى من الإسراف: وهي الإسراف فيما الناسُ شركاء فيه وهو الماء, وهدرٌ له بشكل مخيف, والماء أرخص موجود وأغلى مفقود.

ماءٌ زلالٌ طَهُوْرٌ.. أنزلَه الله من السماءِ بِقَدَرٍ معلومٍ.. على قَدْرِ ما تقومُ به حاجةُ العبادِ، فإنْ قَلَّ عن الحاجةِ هلكوا عَطَشاً، وإن زاد عنها هَلَكوا غرقاً.  أنْزَلَهُ من السماءِ فأسكنَه في باطِنِ الأرضِ حِفظاً لَه من التلوثِ، وحمايةً للعبادِ من الأوبئةِ، وَسَعَةً لهم في الديارِ، وجَعَلَه قريباً يَسْتَخْرِجُه الطالبون {وَإِنَّا عَلَىٰ ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ}

إنه الماءُ.. قِوامُ الحياةِ وشريانُها، هو فضلٌ من الله على عبادِه، فلا يُضارُ العبادُ بفضل الله عليهم،  وَمَنْ تأملَ هذا الحديثَ العظيمَ أدركَ، عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ثَلَاثَةٌ لا يَنْظُرُ اللَّهُ إِلَيْهِمْ يَومَ القِيَامَةِ، وَلَا يُزَكِّيهِمْ، وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ــ ثم ذكر منهم ــ رَجُلٌ كانَ له فَضْلُ مَاءٍ بالطَّرِيقِ، فَمَنَعَهُ مِنَ ابْنِ السَّبِيلِ) متفق عليه

عباد الله: وَصَفَ اللهُ الماءَ بأنه طهورٌ {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا} فَبِهِ الناسُ يتوضَّؤون ويتطهرون.   

ووصفَه بأنه مباركٌ {وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا} به تَـحْيا الأرضُ، ويَنبُت الزرعُ، وتكثر الخيرات.  

ووصفَه بأنه فراتٌ {وَأَسْقَيْنَاكُمْ مَاءً فُرَاتًا} عذباً زُلالاُ يطيبُ للشاربين. {لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ}

وأصبح البعض حين يتخفف من هذا ليس داعيه إلا تخوف الغرامة وارتفاع الفاتورة, والحقّ أن المسلم يقتصد خوفاً من الله, ونأياً عن الخطيئة, وإذا كان العلماء يكرهون الإسراف حتى في الطهارة والوضوء ففي غيرِه أشد كراهة وأسوأ فعلاً.

ووفرةُ المالِ ليست عذرًا ولا مُسَوِّغًا للإسراف، حتى وإن كان المُنفِق مقتدرًا، فالإسراف ذنبٌ من الواجِد ومن المعسر,

والشأنُ كُلّهُ أنّ صاحبَ المالِ مسؤولٌ عنه يوم القيامة، قال رسول الله عليه الصلاة والسلام "لا تزولُ قَدَمَا عَبْدٍ يَوْمَ القِيَامةِ حتى يسأل عن أربع..."، ومنها: "عن ماله من أين اكتسبه وفيمَ أنفقه؟!. رواه الترمذي بإسناد صحيح، 

قال الله تعالى (ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ) أي ما تنعمتم به في الدنيا، فهل أعددنا للسؤال جوابًا؟! وهل أعددنا للجواب صوابًا؟

وإن حقَّ هذه النعمةِ.. أن يُقامَ لله بِشُكُرِها، ومَن شَكرَ رضيَ اللهُ عنه وزاده مِن النِّعَم، عَنْ أنسٍ رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنَّ اللهَ ليرْضَى عَنِ العبْدِ أنْ يأكلَ الأكلَةَ فيحمَدَه عليها، أو يَشْربَ الشَّرْبَةَ فيحمَدَه عليها» رواه مسلم.

وإن حقَّ هذه النعمةِ.. أن تُرعى حقَّ رعايتها، فلا يُسرَفُ فيها ولا يُبَذَّر، هدايةُ القرآنِ أزكى {..وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ}

هذه ليست دعوةٌ للبخل والتقتير، وليست اعتذارًا للشحيح المضيّق على أهله المقتّر عليهم، كلا, ولكن يجب أن يعاد النظرُ في كثير من العادات، في الصرف والإنفاق، على ضوء الصفة الكريمة: (وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً) إنه القصد والعدل، والتوازن والتقصد، وقد قيل: "لا عقل كالتدبير".

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق