( خلق العفة ) :
أيها المسلمون: خلق عظيم، وسجية كريمة؛ يسمو بها الأفراد وترتفع بفشوها المجتمعات، وتستقيم معها الأخلاق وتكسِب صاحبها الأمن والسعادة في الدنيا ويوم التلاق ؛ إنها العفة، والمراد بالعفة تنزيه النفس وضبطها عن الانسياق وراء الشهوات، والكف عن المحرمات والترفع عن سفاسف الأمور ورذائل الأخلاق وخدش المروءة والحياء.
العفة ذلك الجمال الذي لا يراه إلا مَن امتُحِنَ بالحرام فصبر، ومن وُضع في أتون الاختبار فعصمه الله باستعفافه.
العفة عما حرم الله هي تاج الفضيلة، وسوار المروءة، وخاتم التقوى.
العفة عن شهوة الفرج إذا تيسرت وعن المال الحرام عند حصوله : هي ميزان الصبر على البلوى، والشكر على النعمى. ومن أحب المكارم اجتنب المحارم.
إن من أعظم الخصال، وأجمل الخلال، وأشرف الصفات التي ينبغي أن يتحلى بها المسلم، خلق "العفة".
إنها حالة يتصف بها المسلم تمتنع بها نفسه عن غلبة الشهوات، خلق الحميد، وسلوك رشيد، الذي متى ما تأصل في المجتمع وتحقق، وتمثل به أفراده رجالا ونساءً؛ عاش المجتمع حينئذ حياة هانئة مستقرة مطمئنة يحترم فيها كل فرد أخاه، ويعرف حدوده فلا يتجاوزها.
أما ذلك المجتمع الذي يتخلى فيه أفراد عن العفة بحيث لا يعود للعفاف فيه وجود فلا تسل بعد ذلك عن الفوضوية التي تخيم عليه في شتى المجالات، حتى تنشأ من ذلك أخلاق سيئة وسلوك منحرف؛ بسبب غياب العفة وفقدان العفاف، حيث ينتشر الزنا والاغتصاب والتعدي على الحرمات وأكل المال الحرام وفشو المنكرات وتعدي القوي على الضعيف لا دين ولا مروءة ولا عفة .
لقد ذكر الله -تعالى- العِفة في عدة مواضع من كتابه الكريم، ومن أعظم نماذج العفة في القرآن الكريم: قصةُ نبي الله يوسفَ -عليه السلام- (وَراوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِها عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوابَ وَقالَتْ هَيْتَ لَكَ قالَ مَعاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوايَ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ)[يوسف:23].
فامتنع عليه الصلاة والسلام عن الوقوع في المعصية مع توفر أسبابها وقوة الداعي، فكان امتناعُه وعفتُه سبيلاً لأن يدخل السجن، والذي كان بوابته ليتسلم خزائن الأرض.
ولعظيم منزلة العفة وأهميتها أرشد الرسول -صلى الله عليه وسلم- إليها بقوله، ) أربع إذا كن فيك فلا عليك ما فاتك من الدنيا؛ حفظ أمانة، وصدق حديث، وحسن خليقة، وعفة في طُعمة“(رواه أحمد
ولأن الأجر على قدر المشقة؛ فإن ثواب أهل العفاف عند الله عظيم، وأجرهم وافر كريم؛ فعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: “سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول “كان فيمن كان قبلكم رجل اسمه الكفل، وكان لا ينزع عن شيء“، وفي رواية: كان الكفل من بني إسرائيل لا يتورع من ذنب عمله؛ فأتى امرأة علم بها حاجة؛ فأعطاها عطاء كثيرا -وفي رواية: ستين دينارا-؛ فلما أرادها على نفسها ارتعدت، وبكت، فقال: “ما يبكيك؟ قالت: “لأن هذا عمل ما عملته قط، وما حملني عليه إلا الحاجة؛ فقال: “تفعلين أنت هذا من مخافة الله؟ فأنا أحرى، اذهبي فلك ما أعطيتك ووالله لا أعصيه أبدا؛ فمات من ليلته فأصبح مكتوب على بابه: إن الله -تعالى- قد غفر للكفل؛ فعجب الناس من ذلك، حتى أوحى الله تعالى إلى نبي زمانهم بشأنه“(رواه الترمذي وقال: هذا حديث حسن
وللعفة صور ومجالات متعددة؛ فمن ذلك: العفة عن سؤال الخلق؛ كحال الذين قال الله -تعالى- عنهم ( لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ)[البقرة: 273].
ومن صور العفة: عفة اللسان؛ فلا تنطق بالكذب والزور والغيبة واللغو والفجور والسباب والكلام الفاحش واللعان؛ كما وصف الله عباده الله المؤمنين؛ فقال( وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا)[الفرقان: 72].
وفي عفة اللسان نجاة للعبد في الدنيا والآخرة، ويدل على ذلك حديث عقبة بن عامر -رضي الله عنه- قال “قلتُ يا رسولَ اللهِ ما النَّجاةُ قال : ( أمسِكْ عليكَ لسانَكَ، وليسعْكَ بيتُك، وابكِ على خطيئتِكَ“(حسن للترمذي
ومن مجالات العفة وصورها: عفة الفرْج، وقد عدَّ الله اللذين يحفظون فروجهم من جملة المفلحين؛ فقال سبحانه ( وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ)[المؤمنون: 5- 6]
وأكمل صور العفة -أيها المؤمنون-: عفة الدِين؛ وصدق الإمام محمد بن الحنفية -رحمه الله-؛ حيث قال “الكمال في ثلاثة؛ العفة في الدين، والصبر على النوائب، وحسن التدبير في المعيشة“.
عباد الله: ولسجية العفة ثمار باسقة ومكاسب رابحة؛ فمن ذلك: نيل وعد المتقين؛ فالعفة من أجلى مظاهر التقوى، وأنصح صورها؛ لأن العفيف حينما يصد عن الفواحش وأسبابها وعم الحرام وطرقه إنما يتقي بعفته سوء الحساب، وقد وعد الله -جل وعلا- المتقين وعدا حسنا، وبشرهم ببشارات عظيمة كريمة، قال تعالى( وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا)[الطلاق: 5]، وقال تعالى( إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ)[يوسف: 90]، وغيرها من البشارات في القرآن والسنة؛ فأين شهوة ساعة من هذه الكرامات الرفيعة؟! وأين خسارة صبوة الهوى من هذا الجزاء الأوفى؟!
ومن ثمار العفة كذلك: تفريج الكروب؛ فقد جاء في قصة أصحاب الغار، الذين انطبقت عليهم الصخرة أن أحدهم توسل إلى الله؛ كما روى عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما-، قال: “سمعتُ رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- يقول “انطلقَ ثلاثةُ نَفَر ممن كان قبلكم، حتى آواهم المبيتُ إِلى غار، فدخلوه؛ فانحدرتْ صَخرَة من الجبل، فسَدت عليهم الغارَ، فقالوا: إِنه لا يُنجيكم من هذه الصخرة إِلا أن تَدْعُوا الله بصالح أعمالكم، “اللهم إن كنت تعلم أنه كان لي ابنة عم من أحب الناس إلي وأني راودتها عن نفسها فأبت إلا أن آتيها بمائة دينار، فطلبتها حتى قدرت فأتيتها بها فدفعتها إليها فأمكنتني من نفسها فلما قعدت بين رجليها فقالت: “اتق الله، ولا تفض الخاتم إلا بحقه، فقمت وتركت المائة دينار؛ فإن كنت تعلم أني فعلت ذلك من خشيتك ففرج عنا ففرج الله عنهم فخرجوا“(البخاري).
ومنها: الفلاح وثناء الله -تعالى-؛ فالناس يفرحون بثناء البشر والمخلوقين ويعتزون بذلك؛ فالطالب يفرح بثناء معلمه عليه أمام زملائه،والموظف من مديره ، وحين يكون الثناء والتزكية ممن له شهرة بين الناس تعلو قيمة الثناء؛ فكيف إذا كان الثناء من خالق البشر جميعا، وخالق السماوات والأرض بمن فيهن؟! قال تعالى( قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ)[المؤمنون:1-7].
إنه ثناء لا يعدله ثناء، وهو شهادة من رب الأرض والسماء لهؤلاء الأصفياء بالإيمان، وإخبار عن فلاحهم لما حملوا من الصفات الكريمة المشتملة على حفظ الفرج والتجافي عن الفواحش؛ فهل يستبدل عاقل بذلك شهوة عاجلة ولذة فانية.
ليس الظريف بكامل في ظرفه *** حتى يكون عن الحرام عفيفا
فإذا تعفف عن معاصي ربه *** فهناك يُدعى في الأنام عفيفا
ومن ثمرات العفة -أيها المسلمون-: النجاة من عواقب الفواحش؛ فالعفيف في مأمن من عواقب الشهوات، وما تورثه من أضرار وعقوبات على النفس والمجتمع؛ لأن العفة فضيلة عظيمة والفضيلة سياج للفرد والمجتمع، وإن من أسباب سقوط المجتمعات والشعوب والحضارات، تفشي الرذائل والموبقات؛ فعقوبة الزنا فظيعة، وأضراره شنيعة، ومفاسده أشد فتكا بالزاني من السموم، وأعظم بطشا بعرضه ونفسه وماله وجسده من عدو ظلوم! فما هو إلا لذة فانية، وشهوة منقضية تذهب لذاتها، تبقى تبعاتها، فرح ساعة لا شهر، وغم سنة بل دهر، طعام مسموم أوله لذة وآخره هلاك؛ فيندم حين لا ينفع الندامة، ويستقيم حين لا تقبل الاستقامة؛ فطوبى لمن أقبل على الله بكليته وعكف عليه بإرادته ومحبته؛ فإن الله يقبل عليه بتوليته ومحبته وعطفه ورحمته، وإن الله إذا أقبل على العبد استنارت جهاته وأشرقت ساحاته وتنورت ظلماته وظهرت عليه آثار إقباله من بهجة الجلال وآثار الجمال، وتوجه إليه أهل الملأ الأعلى بالمحبة والموالاة؛ لأنهم تبع لمولاهم فإذا أحب عبدا أحبوه، وإذا والى وليا والوه”(طريق الهجرتين وباب السعادتين لابن القيم).
الخطــبة الثانـية:
روى الترمذي وغيره وحسنه الألباني عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، قال: كان رجلٌ يقال له: مَرْثَدُ بن أبي مرثد، وكان رجلًا يحمل الأسرى من مكةَ حتى يأتي بهم المدينة، قال: وكانت امرأة بَغيٌّ بمكة يقال لها: عَنَاق، وكانت صديقة له -يعني في الجاهلية-، وإنه كان وعد رجلاً من أسارى مكة يحمله، قال: فجئت حتى انتهيت إلى ظل حائط من حوائط مكة في ليلة مقمرة، قال: فجاءت عناق، فأبصرت سواد ظلي بجنب الحائط، فلما انتهت إليَّ عرَفَتْ، فقالت: مرثد؟ فقلت: مرثد. فقالت: مرحبًا وأهلًا، هلمَّ فبِت عندنا الليلة. قال: قلت: يا عناق، حَرَّم الله الزنا. قالت: يا أهل الخيام، هذا الرجل يحمل أُسَراءَكم، قال: فتبعني ثمانية، وَسَلَكتُ الخَنْدَمَة -وهو جَبَل قُرب مكة-، فانتهيت إلى كهف أو غار فدَخَلتُ، فجاءوا حتى قاموا على رأسي فبالُوا، فظل بولهم على رأسي وعمَّاهم الله عني، قال: ثم رجعوا ورجعتُ إلى صاحِبِي فحملتُه، وكان رجلًا ثقيلًا، حتى انتهيتُ إلى الإذخر -وهو موضع يكثر فيه شجر الإذخر-، ففككت عنه أَكْبُلَه -أي قيوده-، فجعلتُ أحمِلُهُ ويُعيِيني، حتى قدمتُ المدينة، فأتيتُ رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم-، فقلت: يا رسول الله، أَنكِحُ عناقًا؟ فأمسك رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فلم يَرُدَّ علي شيئًا حتى نَزَلَت( الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ)[النور:3]، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم “يا مَرثَد، الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة، والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك، فلا تَنكِحْهَا“.
يا أمة محمد -صلى الله عليه وسلم-: هذا مرثدُ بن أبي مرثد، كان يُهَرِّبُ الأسرى من مكة إلى المدينة، فعَلِمت به عَنَاق، ودَعَتهُ إلى الزنا، لكنه عَفَّ -رضي الله عنه- عن الحرام مع أن في عفافه هذا هلاكُه وافتضاحُ أمره، وقطعُ طريقٍ على المسلمين، لكنه آثَرَ ما عند الله -تعالى- على شهوة النفس العابرة. إن العفافَ من أخلاق العظماء في كل مِلَّةٍ ونِحلة؛ فالعِفَّةُ خُلُقٌ عظيم من أخلاق أصحابِ المروءة،
عباد الله: ومن ثمار العفة؛ أن المتعفف عن الحرام وما في أيدي الناس يعفه الله؛ فيبارك له فيما بين يديه ويصون وجهه عن الحاجة إلى الناس، ويستره عن الشماتة، ويوشك أن ييسر الله له الرزق من حيث لا يحتسب؛ ففي النسائي بإسناد صحيح عن أبي سعيد -رضي الله عنه- قال: سرحتني أمي إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فأتيته وقعدت فاستقبلني وقال: “من استغنى أغناه الله عز وجل، ومن استعف أعفه الله عز وجل، ومن استكفى كفاه الله عز وجل”،
وفي الصحيحين عنه أيضاً إن ناسًا سألوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأعطاهم حتى نفد ما عنده، قال: “ما يكن عندي من خير فلن أدخره عنكم، ومن يستعفف يعفه الله، ومن يستغن يغنه، ومن يصبر يصبره الله، وما أعطي أحد عطاء خير وأوسع من الصبر“.
ومن ثمرات العفة: أنها تجمع خلال الخير كلها؛ بينما الفاحشة تجمع خلال الشر كلها، فاسألوا الله -أيها المؤمنون- العفة والعفاف، والهداية لأحسن الأخلاق والأوصاف، وتأسوا بنبينا محمد عليه الصلاة والسلام ؛ فقد كان -صلى الله عليه وسلم-كثيرا ما يدعو ربه؛ فيقول ) “اللهم إني أسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى“(رواه مسلم
جزاكم الله خيرا
ردحذفخطبة مفيدة وافية
ردحذفنرجوا ان تستمرا
وفقكم الله