إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

الخميس، 4 أبريل 2019

تحرير بيت المقدس

صلاح الدين وتحرير بيت المقدس ) 
بعد أكثر من أربعة قرون من الفتح العمري لبيت المقدس سنة: 16 من الهجرة، الموافق 637م، تمكن الصليبيون من احتلال القدس سنة: 1099 ميلادية، وذلك في عهد العبيدينالذين لم يكترثوا للقدس ولم يهتموا بها، بل أهملوها وأغفلوا حمايتها وتحصينها، 
 واختلفت كلمتهم، وضعفت قوتهم، فطمع فيهم الطامعون، واشرأبت أعناق الصليبيين لحرب صليبية، فشجعهم ما كان عليه كثير من المسلمين من فساد العقيدة والعبادة والأخلاق، وكثرةِ الاختلاف، وشدة التفرق. 
فاندفعت جموع الصليبيين نحو المشرق، تغلي في قلوبها الأحقاد، ويشحن نفوسها الكيد، فاجتاحت حصون أنطاكية الممنعة، ثم انقضت على معرة النعمان فقاومهم سكانها؛ ولكن العدو كان أكثر فدخلوها عند العشاء فأسكتوا أصوات المؤذنين من فوق المنائر، وأعملوا السيوف في الرقاب، فقتلوا كلَّ رجل وكلَّ امرأة وكلَّ طفل، وجعلوا يطؤون جثث القتلى بعد أن ملأت الدروب وسدت المسالك.
وتابع الجيش الصليبي سيره يحصد المدن والقرى حتى وصلوا بيت المقدس ضحى يوم الجمعة لسبعة أيام بقيت من شعبان سنة ثنتين وتسعين وأربعمائة للهجرة.. فجاسوا خلال الديار، وتبَّروا ما علوا تتبيرًا. 
وقد استمات سكان القدس من أهل السنة في الدفاع عنها، فصمدوا أمام جيش الصليبين البالغ خمسين أو ستين ألف مقاتل شهرًا كاملًا قبل أن تسقط المدينة في أيدي الصليبين ..
أعملوا السيوف في الرقاب، وأجروا الدماء في الشوارع، ورفعوا من جثث القتلى تلالاً، وصنعوا من هاماتهم قبابًا، ثم دخلوا الدور فسبوا من فيها وبقروا البطون بحثًا عن الدنانير، ولاذ المسلمون بالمسجد الأقصى، فتبعوهم وقتلوا داخله ما يزيد على سبعين ألفًا، فيهم العالم الزاهد، والعابد الراكع، والشيخ الطاعن، والطفل الراضع، والمرأة الثاكل، لم يميزوا مقاتلاً عن غير مقاتل، ولا فرقوا بين عاجز وقادر.
دخلوا بخيلهم بيت المقدس، فداست سنابكها على الأشلاء، وتخضبت قوائمها بالدماء، حتى كتب مؤرخ صليبي حضر هذا الحدث الجلل فقال: "فلما ولج حجاجنا المدينة جدّوا في قتل الشرقيين ومطاردتهم حتى قبة عمر حيث تجمعوا واستسلموا لرجالنا الذين أعملوا فيهم أفظع القتل طيلة اليوم بأكمله، حتى لقد فاض المعبد كله بدمائهم". 
فهام الناس على وجوههم من الشام إلى العراق يصحبهم القاضي أبو سعيد الهروي، فحكوا لأهل بغداد ما حلّ بهم، فبكوا من هول ما أخبروا، ونظم القاضي الهروي كلامًا يصف تلك الكارثة، فقرئ في الديوان وعلى المنابر فارتفع بكاء الناس، وندب الخليفة الفقهاء ليحرضوا على الجهاد؛ ولكن ذلك لم يُجْدِ شيئًا؛ لأن الأوان قد فات، والداءَ قد استمكن. ولم تكن العلةُ في قوة العدو بقدر ما هي في ضعف المسلمين؛ حيث فرطوا في أمر الله وأضاعوه، فوكلهم الله إلى أنفسهم، ومن وكل إلى نفسه عجز، ومن وكل إلى الخلق ضيعوه، ومن توكل على الله كفاه.
لقد استقبل المسلمون ذلك الرمضان الحزين، وجراحهم تنزف، وأجفانهم تحترق، وقلوبهم تشتعل، وما أصابهم ما أصابهم إلا بما كسبت أيديهم.
وظلت القدس أكثر من ستة وثمانين عامًا تئن تحت وطأة الصليبين يعيثون فيها فسادًا وإفسادًا وتدنيسًا، فرفعوا الصلبان على المسجد الأقصى وعلى أسوار المدينة، ونصبوا صليبًا عظيمًا فوق قبة الصخرة، وضج أهل المدينة من المسلمين بذلك الاحتلال الصليبي البغيض، وبكى لبكاء القدس آلاف من المسلمين، حتى كتب أحدهم إلى صلاح الدين الأيوبي قائلًا:
يـــــا أيــــهــــــا الـمــــــلك الـــــــــذي *** لـمــعــالـم الصــلـبــان نَكَّـــــسْ
جــــاءت إلـــيـــك ظــــــــلامـــــــــــة *** تسعَى مِن البيتِ الـمقـــدسْ
كـــــل الـمـــســـاجـــد طُــهِّــرت *** وأنا -على شرفي- مُنَـجـَّسْ
 فقد أيقن الجميع ألا سبيل ولا طريق لتحرير القدس إلا بالقتال، وتنادى أهل الإيمان والمروءة والنخوة بالجهاد في سبيل الله لتحرير القدس الأسير، واجتمعت الألوف من المتطوعين المجاهدين تحت لواء صلاح الدين الأيوبي -ذلك القائد الرباني الذي رفع راية الجهاد من قديم- وكلهم أمل أن يحرر الله -تعالى- بهم المسجد الأقصى وأرض بيت المقدس المباركة. اجتمع الشامي مع العراقي مع المصري ، واجتمع العربي مع الاعجمي ، والابيضمع الاسود ، لم تفرق بينهم قوميات ولا نعرات ولا جنسيات ، جمعتهم راية الاسلام وتحت ظلها انضووا ولرفع كلمة لا اله الا الله جاهدوا وفي سبيل تحرير القدس ضحوا بكل شيء ، اموالهم وانفسهم وابناءهم وكل ما يملكون ..
أصلح نفسه ونشر الصلاح في جنده وحفظ أمر الله فنصره الله، أشرب حب الجهاد حتى قضى نحوًا من ربع قرن على صهوة جواده، أو في حصار قبالة أعدائه، وفي نحو عشرين سنة، قاد أربعًا وسبعين معركة.
يحكي سيرته من عاصره ولازمه في بعض معاركه، وهو المؤرخ القاضي ابنُ شَدَّاد فيقول: "لو حلف الحالف أنه ما أنفق بعد خروجه إلى الجهاد دينارًا ولا درهمًا إلا في الجهاد أو في الإرفاد لصدق وبر في يمينه". 
ويحكي عنه مرة أنه قال له: "في نفسي أنه متى يسر الله تعالى فتح بقية الساحل قسمت البلاد وأوصيت وودعت، وركبت هذا البحر إلى جزائرهم أتتبعهم فيها حتى لا أبقي على وجه الأرض من يكفر بالله أو أموت".
الله أكبر!! هدف نبيل، وغاية سامية، وهمة عالية، استحق بها أن يحقق الله على يديه أعظم منقبة في ذلك العصر ألا وهي فتح بيت المقدس وإخراج الصليبيين منه، وتطهيره من رجسهم.
والتقى الجمعان؛ جند الكفر وجند الإيمان، التقى المجاهدون المؤمنون الذين جاءوا وأسمى أمانيهم أن ينالوا الشهادة في سبيل الله، جاءوا والموت أحب لديهم من الحياة، التقوا بجيش الصليبين الذين ما قدموا من بلاد أوروبا إلا طامعين وسارقين وناهبين ومعتدين، والتقى الجميع على أرض حطين في يوم السبت (25 ربيع الثاني 583 هـ الموافق 4 يوليو 1187 م) بالقرب من قرية المجاودة، بين الناصرة وطبرية، ودارت معركة عظيمة كان النصر فيها حليف المسلمين… وكانت هذه المعركة هي البداية الحقيقة والطريق الذي لا بد أن يُسلك لتحرير مدينة القدس.
 ولم يتوجه صلاح الدين بعد هذا النصر إلى القدس مباشرة، لكنه بدأ في اقتصاص أجنحة الصليبين وذيولهم التي قد تقوم منتفضة دفاعًا عن القدس، فبدأ بفتح مدينة عكا سنة 583 هـ، والتي كانت الميناء التجاري لإمداد الصليبيين بالسلاح والمؤن من أوروبا، ولما انقطع طريق الإمداد انتقل الجيش الإسلامي ففتح مدنًا وقرى وقلاعًا كثيرة منها: نابلس وحيفا والناصرة وقيسارية وصفورية وتبنين وصيدا وبيروت وجبيل وعسقلان والرملة وغزة وبيت جبرين والنطرون… حتى تحررت معظم أراضي فلسطين ولبنان من دنس الصليبين.
الخطبة الثانية : 
 بعد ذلك فقط صار الطريق ممهدًا لفتح بيت المقدس الأسير، فتوجه المسلمون إليها ووصلوها في يوم الخميس (11 رجب سنة 583 هـ، الموافق 20 سبتمبر سنة 1187م)، وحرص صلاح الدين أن يحرم الصليبين من الماء وأن يستأثر به للمسلمين، فسار من جهة عين سلوان، وحانت صلاة الجمعة فصلاها المسلمون على جبل سلوان، فامتلأ الجند إيمانًا واشتاقوا إلى الشهادة في سبيل الله، وبعد صلاة الجمعة مباشرة بدأ الزحف الإسلامي لتحرير بيت المقدس.
 وكانت قائد الجيش الصليبي في القدس ساعتها هو باليان بن بارزان صاحب مدينة الرملة، ولقد استمات هو ومن معه في قتال المسلمين ظنًا من الجميع أنهم على كل حال مقتولون؛ فقد كانوا يعتقدون أن المسلمين لو دخلوا القدس فسوف يذبحون كل من فيها من النصارى تمامًا كما فعلوا هم بمسلمي القدس
عندما اغتصبوها في عهد العبيدين، فكان قتالهم دفاعًا عن دمائهم وأرواحهم، لكن صلاح الدين الأيوبي أخلف ظنونهم فأرسل إليهم يدعوهم لتسليم المدينة على أن لهم الأمان على نفوسهم وأولادهم وأموالهم.
 لكن الصليبين أخذتهم العزة بالإثم ولم ينزلوا على وعد المسلمين، ودارت الحرب طاحنة على مدار أربعة عشر يومًا كاملة، ونصب المسلمون المنجنيق حول المدينة، وقاوم الصليبيون مقاومة شرسة حتى لقد استطاعوا قتل عدد من قادة المسلمين وأمرائهم، لكن الحصار قد اشتد عليهم وبدأت المؤن تقل داخل المدينة، ومما أضطرهم إلى الاستسلام أن عمد المجاهدون المسلمون إلى الزاوية الشرقية الشمالية من سور المدينة فأحدثوا فيه فجوة وحشوها بالأخشاب وأشعلوا فيها النيران حتى انهار ذلك الجانب من الحصن في دوي فظيع.
 وأيقن الصليبيون ساعتها أن ليس أمامهم إلا الاستسلام، فهرعوا إلى القائد صلاح الدين طالبين الأمان، لكنه تمنَّع ولم يقبل، وقال: “لا أفتحها إلا عنوة”، فصاروا يستجدون منه الأمان الذي عرضه عليهم من قبل فرفضوه، وما زالوا يتذللون ويستعطفون حتى قَبِل المسلمون الصلح؛ بأن يخرج من شاء من القدس على أن يُدفَع عن الرجل عشرة دنانير، وعن المرأة خمسة دنانير، وعن كل طفل ديناران، ومن لم يدفع صار أسيرًا للمسلمين، ودفع من دفع، وعفى السلطان صلاح الدين عن آلاف من فقرائهم ومساكينهم لا يملكون المال.
 ودخل المسلمون القدس الحبيبة يوم الجمعة السابع والعشرين من رجب سنة 583 هـ، الموافق الثاني من أكتوبر سنة 1187م، وعمدوا إلى المسجد الأقصى وإلى قبة الصخرة يطهرونهما من القذر والأوساخ التي تراكمت فيهما وعليهما في سنوات الاحتلال الصليبي، ويسقطون الصلبان التي نُصبت فوقهما في مشهد يذكرنا بتحطيم الأصنام التي أحاطت بالكعبة المشرفة في يوم فتح مكة… وبعث صلاح الدين الأيوبي إلى حلب فجاء بالمنبر الذي صنعه الملك نور الدين محمود بن زنكي قبل سنوات طوال ليوضع في محله بالمسجد الأقصى.
 وفي الجمعة التي تليها أقيمت الخطبة والشعائر في المسجد الأقصى وصعد عليه الشيخ محيي الدين بن محمد بن علي القرشي بن الزكي، فخطب فيه أول جمعة بعد الفتح، وتعالى التكبير والتحميد والتهليل، وعادت المدنية المباركة والمسجد الأقصى الحبيب إلى أحضان المسلمين، فكأنه يوم غير أيام الأرض، وزمان غير أزمنتها! فرحم الله صلاح الدين الأيوبي ورحم الله المجاهدين معه.
 واليوم، إننا لا نتخيل لو بُعث عمر الفاروق أو بعث صلاح الدين الأيوبي حيَّين، فسألانا: ماذا فعلت المدينة المقدسة في زمانكم؟! ما حال المسجد الأقصى الذي تركناه أمانة في رقابكم؟! فبما نجيب؟! بأي وجه نلقاهما؟! بأي لسان ننطق؟! ما نقول لهم! أنقول: ضيعناهما وتخاذلنا عن نصرتهما؟! أنقولهانت علينا أولى القبلتين وثاني المسجدين وثالث الحرمين؟! أنقول: نعيش وهمنا بطوننا وقبلتنا شهواتنا؟!…
اللهم أصلح أحوال المسلمين.

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق