بادر قبل أن تبادر
( خطبة رائعة للشيخ علي القرني مع تصرف يسير ) |
الحمد لله قضى ألا تعبدوا إلا إياه ، لامانع لما أعطاه ، ولاراد لما قضاه ،ولامظهر لما أخفاه ، ولاساتر لما أبداه ، ولامضل لمن هداه ، ولاهادي لمن أعماه ، والصلاة والسلام على من أرسله الله واصظفاه ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) (آل عمران:102)
عباد الله .. إن الناظر بعين البصر والبصيرة إلى الخلق يجد عجباً ، يجدهم غادين جادين .. جادين في بيع أنفسهم ، ففائز رابح ومغبون خاسر ، رابح دان نفسه وحاسبها وعمل لما بعد الموت فنجى ، ،خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى ، ، أعتق نفسه وزكاها وقد أفلح من زكاها ، وخاسر نسي مصيره ، فانغمس في المحرمات على غير بصيرة ، باع دينه بعرض من الدنيا ، أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني حتى داهمته المنية ، دساها وقد من خاب دساها ( مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) (فصلت:46). لا نعجب من خطأه واتباعه هواه معشر المسلمين ، إذ لاعجب ولاغرابة أن يخطئ الإنسان ويصدر منه السفه والجهالة والظلم فكل بني آدم خطاء والمعصوم من عصمه الله ، لكن العجب منه يوم يدرك خطأه وإسآته وجهله وظلمه ثم يظل متلبساً بذلك ، مصر عليه ، أمناً مكر الله عليه ، ووعيده له (أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ) (لأعراف:99) . يامن بدرت منه الخطيئة وكلنا ذاك .. عودة .. عودة إلى أفياء الطاعة ، الباب مفتوح ، (وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيماً) (النساء:27) بادر قبل أن تبادر ، بادر بالاقلاع عن الذنب بشعور بالألم ، ألم المعصية ، مع عزم أكيد على استئناف حياة صالحة ، طيبة نقية طاهرة ، بادر .. فإن تأخير التوبة من الذنب ذنب يحتاج إلى التوبة ( وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ )(النساء: من الآية18) بادر فإن الذنب يجر إلى الذنب فكم من ذنب صغير كانت النهاية معه بالتسويف أن يحال بين إيمانه وقلبه وقد يسلب إيمانه فبادر ، ، فما عجزت عنه اليوم قد تكون غداً أشد عجزاً فبادر . يُفعل الذنب فيخلق الإيمان في القلب كما يخلق الثوب ، ثم يغلف بالران فيذبل ثم يقسوا ( فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ)(الزمر: من الآية22) ثم يموت القلب وعندها يحرم الانسان لذة مناجاة الله ، فعبادته بعد ذلك آلية لاروح فيها ، لاتُزكي نفساً ولاتُطهر رجساً ، تلك عقوبة وبلية أي بلية ، ، ثم يُهمل الاستغفار ، ثم يحرص على الذنب مع عدم التلذذ به ، كلما حاول أن يعود أُركس في ذنبه مع هم وغم وحزن وخوف وذل لايفارقه ، أبى الله إلا أن يذل من عصاه . يامقلب القلوب ثبت قلوبنا على دينك ، نسألك اللهم حسن الخاتمة . بادر قبل أن تبادر ، هل تنتظر إلا غنى ً مطغياً ، أو فقراً منسياً ، أو هرماً مفنّداً ، أو موتأ مُجهزاً ، أو الدجال فشر غائب ينتظر ، أو الساعة والساعة أدهى وأمر ، بادر قبل أن تبادر ، واصدق في توبتك واجعلها نصوحاً خالصة ، فإن الله يدعوك في عداد المؤمنين ، ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ) ويعد بالفلاح على ذلك فيقول (وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)(النور: من الآية31) . الصادق في توبته لايزال ذنبه نصب عينيه ..خائفاً منه مشفقاً باكياً وجلاً نادماً مستحياً من ربه ، دائم التضرع إليه واللجوء إليه ، حتى يقول عدو الله إبليس ليتني تركته فلم أوقعه في ذلك الذنب ، روى الامام مسلم في صحيحه أن امرأة من جهينة وقعت في كبيرة الزنى في لحظة ضعف فتذكرت عظمة الله وعقابه ووعيده فأنابت وتابت في شعور عظيم بمرارة المعصية وعظم الكبيرة وأرادت البراءة بطريق متيقناً لايتطرق له أدنى احتمال فأتت النبي صلى الله عليه وسلم ، وقالت يارسول الله طهرني فقال : ويحك ارجعي واستغفري الله وتوبي اليه – كان يكفيها ذلك – لكنها قالت يارسول الله أراك تريد أن تردني كما رددت ماعز بن مالك ، والله إني حبلى من الزنا فطهرني يارسول الله ، قال أأنت قالت نعم ، فقال لها ارجعي حتى تضعي مافي بطنك ، وبضعة أشهر تمر وهي على خوفها واشفاقها وقلقها ، ثم تضع وتأتي بالصبي في خرقة ، وتقول هو ذا قد وضعته فطهرني يارسول الله ، قال اذهبي فارضعيه حتى تفطميه ، وحولان كاملان على خوفها واشفاقها وعزمها على تطهير نفسها بالحد ، والحد كفارة كما أخبر بذلك الرسول صلى الله عليه وسلم ، فطمته وأتت النبي صلى الله عليه وسلم بالصبي وفي يده كسرة الخبز ، هو ذا يارسول الله فطمته فطهرني ، دفع الصبي إلى رجل من المسلمين ، ثم أُمر بها فحفر بها إلى صدرها ، وأمر الناس فرجموها فكان ممن رجمها خالد بن الوليد رضي الله عنه فتنضخ دمها على وجه خالد فسبها وشتمها فسمعه النبي صلى الله عليه وسلم فقال مهلاً ياخالد فوالذي نفس محمد بيده لقد تابت توبة لو قسمت على أمة لوسعتهم . ماضرها وكأن الذنب لم يكن ولقد بقي لها صدقها .. وثناء النبي صلى الله عليه وسلم عليها وعلى توبتها ، وبقي لها شرف الصحبة .. بقي لها فوق ذلك صلاة النبي صلى الله عليه وسلم عليها ودفنه لها فرضي الله عنها وأرضاها . بادر قبل أن تبادر ولاتيأس ولاتقنط وإن كبر الذنب( إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ)(يوسف: من الآية87) (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) (الزمر:53) جاء في صحيح مسلم ( ان النبي صلى الله عليه وسلم قال إن لله مائة رحمة أنزل منها رحمة واحدة بين الجن والإنس والبهائم والهوام فبها يتعاطفون وبها يتراحمون وبها تعطف الوحش على ولدها وأخر الله تسعا وتسعين رحمة يرحم بها عباده يوم القيامة ) . وجاء عنده أيضاً من حديث عمر بن الخطاب أنه قال قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم بسبي فإذا امرأة من السبي تبتغى إذا وجدت صبياً في السبي أخذته فألصقته ببطنها وأرضعته فقال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أترون هذه المرأة طارحة ولدها في النار قلنا لا والله وهى تقدر على أن لا تطرحه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لله أرحم بعباده من هذه بولدها . قال الشيخ السعدي رحمه الله ( فقل ما شئت عن رحمته فإنها فوق ما تقول ..وتصور فوق ما شئت فإنها فوق ذلك فسبحان من رحم في عدله وعقوبته كما رحم في فضله وإحسانه ومثوبته وتعالى من وسعت رحمته كل شيء وعم كرمه كل حي ، وجل من غني عن عباده رحيم بهم وهم مفتقرون إليه على الدوام في جميع أحوالهم فلا غنى لهم عنه طرفة عين ) . رحمة الله كتبها للعاملين لاللخاملين البطالين ، فياعبد الله اعرف عزة الله في قضائه ، وبره في ستره ، وحلمه في امهاله ، وفضله في مغفرته ، فلله عليك أفضال وأفضال ، ستره عليك حين ارتكابك للذنب ، أما والله لو شاء الله لفضحك الله على رؤوس الخلائق.. فما جلست مجلساً ولاحضرت مجمعاً إلا عيرت بذلك الذنب.. فكم من عاص نفس معصيتك فُضح وسترك الله الذي لاإله إلا هو ، وياعجباً لأقوام يسترهم الله فيصبحوا يتحدثون قد هتكوا ستر الله عليهم ، أولئك غير معافين إنهم المجاهرون ، وكل أمة محمد صلى الله عليه وسلم معافى إلا المجاهرين ، فاشكر ربك إذ سترك . ثانيها / حلم الله عليك ، وقد سمعت طرفاً من سعة رحمته سبحانه وتعالى . ثالثها / وهو من أعظمها فرح الله جل وعلى بتوبتك فرح احسان وعز ولطف ، لافرحة محتاج إلى توبة عبده ، تبارك الله وجل الله ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما رواه الامام مسلم ( لله أشد فرحا بتوبة عبده المؤمن من رجل في أرض دوية مهلكة معه راحلته عليها طعامه وشرابه فنام فاستيقظ وقد ذهبت فطلبها حتى أدركه العطش ثم قال أرجع إلى مكاني الذي كنت فيه فأنام حتى أموت فوضع رأسه على ساعده ليموت فاستيقظ وعنده راحلته وعليها زاده وطعامه وشرابه فالله أشد فرحا بتوبة العبد المؤمن من هذا براحلته وزاده ) .
الخطبة الثانية :
رابعها / تبديل السيئات إلى حسنات قال الله جل الله (وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً ، يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً ، إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً) (الفرقان:70) أخرج المنذري وغيره بنسد جيد عن أنس رضي الله عنه ( قال جاء شيخ كبير هرم قد سقط حاجباه على عينيه فقال يا رسول الله رجل غدر وفجر ولم يدع حاجة ولا داجة إلا اقتطفها بيمينه لو قسمت خطيئته بين أهل الأرض لأوبقتهم فهل له من توبة فقال النبي صلى الله عليه وسلم أأسلمت قال أما أنا فأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدا عبده ورسوله فقال النبي فإن الله غافر لك ما كنت كذلك ومبدل سيئاتك حسنات فقال يا رسول الله وغدراتي وفجراتي فقال وغدراتك وفجراتك فولى الرجل يكبر ويهلل ) ، فضل الله واسع ، لايهلك إلا هالك ولايشقى إلا شقي ، فلاتيأس من رحمة الله ولاتجترئ على معصية الله ، وتب كلما أذنبت . بادر قبل أن تبادر ، بادر ولاتنظر إلا صغر الخطيئة ولكن انظر إلا عظمة من عصيت ، إنه الله الجليل ، إنه الله العظيم ، إنه الله الكبير ، من نظر إلى عظمة الله وجلاله عظم حرماته وقدره قدره وأجلّ أمره ونهيه . أيها المسلمون ياعبد الله .. بادر وإياك ومحقرات الذنوب فإن لها من الله طالباً ، بادر ورد المظالم إلى أهلها ، أو تحلل منهم واطلب المسامحة ، لاتتم التوبة إلا بذاك روى البخاري في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( من كانت له مظلمة لأحد من عرضه أو شيء فليتحلله منه اليوم قبل أن لا يكون دينار ولا درهم إن كان له عمل صالح أخذ منه بقدر مظلمته وإن لم تكن له حسنات أخذ من سيئات صاحبه فحمل عليه ) . بادر قبل أن تبادر ولاتصحب الفاجر والمرء على دين خليله ، اهجر السوء وأهله . بادر قبل أن تبادر ، واتبع السيئة الحسنة تمحها قال الله ( وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ) (هود:114) . ياعبد الله .. أسألك سؤالاً وأريد منك اجابة شافية لنفسك لالي ، هل أنت الآن على استعداد لو جاءك ملك الموت في هذه اللحظة ، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) (الحشر:18) فتب وبادر قبل أن تبادر. ...اللهم ارزقنا توبة نصوحاً ، اللهم اغفر الذنوب ، اللهم استر العيوب . |
إجمالي مرات مشاهدة الصفحة
الجمعة، 19 أبريل 2019
بادِر قبل أن تُبَادَر
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق