إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

الخميس، 23 يناير 2020

وأن تعدوا نعمة الله لا تحصوها

( وان تعدوا نعمة الله لا تحصوها ) 
الخطبة الاولى : 

أما بعد: فاتقوا الله -أيها المسلمون- واعلموا أن مِن أعظم وأجلِّ الطاعات والقربات أن يتذكَّرَ المسلمُ ما أنعم الله به عليه، في بدنِه ودينه ودُنْياه.
فما أعظم أنْ تستحضر -أيُّها المسلم- وتتذكرَ على الدوام، نعمَ الله عليك في بدنِك وأولادِك ودينِك.
قال بعضُ السلف: "ذِكْرُ النِّعمة يورث الحب لله -عزَّ وجلَّ-".  
وقال الحسن -رحمه الله-: "أكثروا ذكرَ هذه النِّعَم، فإن ذكرَها شكرُها". 

عباد الله: إن الكثير من الناس في مجالسهم، وبينَهم وبين أنفسهم، يذكرون المساوئ والمصائب، فالبعض يذكرُ قلَّةَ راتبه وكثرةَ احتياجاته، ، ويتجاهلون ذكرَ نعم الله عليهم، وما منَّ به عليهم من الصحة والعافية والهداية، وهذا لا يليق مع الرب المنْعمِ المتفضِّلِ عليهم.
ونِعَمُ الله كثيرةٌ عظيمة، وما خَفِيَ منها أكثرُ وأعظم، والكثيرُ من الناس، يستحضر نِعْمةَ المأكلِ والمشربِ والمسكنِ فقط، ولم يعلم أن هذه من أقلِّ ما أنعم الله به عليه، وهي نعمٌ أعطاها الله حتى الكفار والمشركين. 
قال أبو الدرداء -رضي الله عنه-: "من لم يعرف نعمة الله عليه إلا في مطعمه ومشربه، فقد قلَّ علمه، وحَضَرَ عذابه".

نعم -أيها المسلم- كم من النعم العظيمة الجليلة، التي تتمتع وتتقلَّب بها، وأنت لا تتذكَّرها ولا تستحضرها، أليس سترُ الله عليك، وعدمُ كشف معايبك وذنوبك؛ نعمةً لا تُقدَّر بثمن؟! ماذا عن نعمة الله عليك في سلامةِ عرضك وأهلك، ألست مُعافى من الوسوسة المميتة القاتلة، ألست مُعافى في بدنك، عندك قوتُ يومك، آمنًا في بيتك وأهلك، ألست تتمتع بالنظر والسمع والعقل؟!

يا مَن تشتكي قلَّة المال، وكثرةَ الديون، حتى أنْستك كلَّ نعمةٍ تتقلب بها، أتحبُّ أنْ تُعطى الأموال، وتُسلبَ نعمةً واحدةً من هذه النعم، فكيف تجحد وتنسى ما أنت فيه من النعم العظيمة، وتشكو حِرمان أموالٍ تافهةٍ قليلة.
ولكن صدق الله تعالى: (إِنَّ الْإِنسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ) [العاديات: 6]، قال الحسن -رحمه الله-: "الكنودُ هو الذي يَعُدُّ المصائب، وينسى نعم الله عليه".  
يـا أيُّها الظـالم في فعله *** والظلم مردودٌ على من ظلم
إلى متى أنـت وحتى متى *** تشكو المصيبات وتنسى النعم 

جاء رجلٌ إلى أحد السلف الصالحين، يشكو إليه الحاجة وقلَّة المال، فقال له: أتُحبُّ أنَّ لك ببصرك هذا الذي تُبصِرُ به مائةَ ألف درهم؟! قال الرجل: لا، قال: فبيدك مائة ألف درهم؟! قال: لا، قال: فبِرِجْلِكْ؟! قال: لا، قال: فذكَّره نِعَمَ الله عليه، فقال له: "أرى عندك مئينَ ألوفٍ، وأنت تشكو الفقرَ والحاجة".
فيا كثير التسخُّطِ والتشكِّي: اعْرفْ قَدْرَ الصِّحَّةِ والعافية.
قال وهب بن مُنَبِّهٍ -رحمه الله-: "مكتوبٌ في حكمة آل داود: العافيةُ: الْمُلْك الخفيُّ".
وقد قَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "نِعْمَتَانِ مَغْبُونٌ فِيهِمَا كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ: الصِّحَّةُ وَالْفَرَاغُ". رواه البخاري.
أي إن الصِّحَّةَ وَالْفَرَاغ، كثيرٌ من الناس مغبونٌ فيهما، يندم ويتحسَّرُ صاحبُهما يوم القيامة، لعدمِ استغلاله لهما بما ينفعه ويُفيده.

أيها الْمُسْلم: وإنَّ نِعْمَةَ الله عليك في دينك، وسلامةِ عقيدتك، لهي أعظمُ نعمة، وأفضلُ منَّة، وهي التي يجب عليك شكرُها على الدوام. فإنَّ أكثر مَن في الأرض عقائدُهم باطلةٌ منحرفة.
قال بعض السلف: "كُنْ لِنِعْمة الله عليك في دينك، أشْكَرُ منك لنعمةِ الله عليك في دُنْياك". 
كمْ في الأرض مِنْ أُناسٍ يعبدون البقر والحجر، ومَنْ يعبدون الأولياء والأضرحة، فاحمد الله أن وفقك لعبادته وحده لا شريك له.

فيا من بارزت ربك بالمعاصي والذنوب: ألا يستحق مَنْ متَّعك وفضلك بهذه النعم، أنْ تشكره عليها كلَّ يومٍ وفي كل حين؟! ألا تستحي -أيها العاصي- أنْ تعصيَه وقد أعطاك كلَّ ما تريد، كيف تعصيه بِنِعَمِه، تَنْظُرُ إلى الحرام وغيرُك قد سُلب النَّظر، تَسمع إلى الغيبة والنميمة والغناء، وغيرُك قد حُرِم نعمةَ السمع، تعصيْه بالزنا والخنا، وغيرُك قد شُلَّت جوارحه، وتعطَّلت أركانه.
.
مرَّ أحدُ السلف الصالح بشابٍّ يُراود امرأةً عن نفسها، فقال له: "يا بني: ما هذا جزاء نعمة الله -عز وجل- عليك؟!". 

واعلم علمَ اليقين أن النعم إذا شُكرت قرَّت وزادت، وإذا كُفِرَتْ فرت وزالت، قال تعالى: (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ) [إبراهيم: 7]، فمتى أردت دوامَ النعمِ وزيادتَها فالْزم الشكر، وبدونه لا تدوم ولا تَهْنأُ لَكَ نِعْمَة.

وقال الحسن -رحمه الله-: "إن الله لَيُمَتِّعُ بالنعمة مَنْ شاء، فإذا لم يُشْكَر قَلَبَها على صاحبِها عذابًا".  
وأما إذا كنت شاكرًا لله على نِعَمِه، وسخَّرت جوارحك في طاعته، فهذه كرامةٌ ومنحةٌ ربَّانية، 
وسترى المزيد والتوفيق بإذن الله تعالى.
قال الفضيل بن عياض -رحمه الله-: "من عرف نعمة الله بقلبه، وحمده بلسانه، لم يستتم ذلك حتى يرى الزيادة؛ لقول الله -عز وجل-: (لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ) [إبراهيم: 7]". 

وقال ابن القيم -رحمه الله-: "الشكر معه المزيد أبدًا، فمتى لم تر حالك في مزيد، فاستقبل الشكر". اهـ.
أي إنك حينما لا ترى زيادةً في رزقك، وبركةً في أهلك ومالك وحالك، وانْشراحًا في صدرك، فإنما هو بسبب تقصيرك في شكر الله، فاسْتقبل الشكر الحقيقيَّ الصادق، الذي يكون معه العمل والإخلاص، والطاعةُ والإيمان، وتركُ الشِّكايةِ والتَّسخُّط.
فالشكر الحقيقي: أن لا يُستعان بشيء من نعمه على معاصيه، كما قاله السلف الصالح، فالنَّظَرُ نعمة، فلا تستعن بها على المعصية، والمال نعمة، فلا تستعن به على المعصية.
نسأل الله تعالى، أن يُلْهمنا شُكرَ نِعْمِه، وأن يعيذنا من كفرانها، إنَّه سميع قريبٌ مجيب.

الخطبة الثانية : 
اعلمُوا أَنَّ نِعَمَ اللهِ لا تُحْصَى, كما قال تعالى: ( وإنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ ). أَيْ أَنَّكُم لَو اشْتَغَلْتُم بِتَعْدادِ نِعَمِ اللهِ, تَعْدادًا مُجَرَّداً مِن الشُّكْر, بِحَيثُ أَنَّكُم تَتَوَقَّفون عَن أعمالِكم كُلِّها, وتَشْتَغِلُون فقط بِتَعْدادِ نِعَمِ الله, فَإنكُم لا تَستطيعون إِحصاءَها, فَكيفَ ستُقابلونَ هذه النعمَ بالشُّكْرِ أَيُّها العبادُ الضُّعَفاء؟. 

قال طلق بن حبيب ان حق الله أثقل من أن يقوم به العباد ، وان نعم الله اكثر من أن يحصيها العباد 

مِمَّا يَدُلُّ على أَنَّ العبادَ لو كُلِّفَوا بُمُقابلةِ جَميعِ نِعَمِ اللهِ عَلَيهِم بالشُّكْرِ لَهَلَكوا. ولَكنَّ اللهَ سُبحانَه رؤوفٌ رحيمٌ لَطيفٌ بِعِبادِه, غَفورٌ لَهُم, حليمٌ عليهِم. ولذلك خَتَمَ اللهُ تعالى هذه الآيةَ الكريمةَ بِقوله: ( إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ ). أَيْ أَنَّه سبحانَه لَمْ يُطالِبْكُم بِمقابلةِ جَميعِ هذه النِّعمِ, وإنَّما يَرْضَى مِنْكُم الشكرَ اليسيرَ, في مُقَابِلِ الإنعامِ الكثير. والأدلةُ على ذلك كثيرةٌ في الكتابِ والسُّنَّة.

نَذكرُ مِنها ما رواه مُسْلِمٌ عن أبي ذَرٍّ الغِفاريٍّ رضي الله عنه, عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( يُصْبِحُ عَلَى كُلِّ سُلَامَى مِنْ أَحَدِكُمْ صَدَقَةٌ، فَكُلُّ تَسْبِيحَةٍ صَدَقَةٌ، وَكُلُّ تَحْمِيدَةٍ صَدَقَةٌ، وَكُلُّ تَهْلِيلَةٍ صَدَقَةٌ، وَكُلُّ تَكْبِيرَةٍ صَدَقَةٌ، وَأَمْرٌ بِالْمَعْرُوفِ صَدَقَةٌ، وَنَهْيٌ عَنْ الْمُنْكَرِ صَدَقَةٌ، وَيُجْزِئُ مِنْ ذَلِكَ رَكْعَتَانِ يَرْكَعُهُمَا مِنْ الضُّحَى ). 
والمَقْصودُ بالسُّلامَى في الحديث: " المِفْصَلُ, أو العَظْم ", فإنَّ بَدَنَ الإنسانَ عِبارَةٌ عَن جَوارِحَ وعِظامٍ ومَفاصِلَ. يَقولُ النبيُّ صلى الله عليه وسلم: ( إِنَّه خُلِقَ كُلُّ إنسانٍ مِنْ بَنِي آدَمَ على سِتِّينَ وثَلاثِمائَةِ مِفْصَل ). 

وهذه المَفاصِلُ يا عبادَ الله, تَحتاجُ إلى أَنْ يُؤَدِّيَ العبادُ شُكْرَها. لأن ذلك مِنْ شُكْرِ نِعْمَةِ البَدَن والصِّحَّة. ومِنْ كَمالِ التَّعبُّدِ لِلّهِ والتَّذَلُّلِ لَه: أنْ يَقُومُوا بِشُكْرِ هذِه النعمة. ولكنَّ القيامَ بِذلك على الوَجْهِ الكامِلِ شاقٌّ على العبدِ, بَلْ مُسْتَحيل. لأن كُلَّ عُضْوٍ في بَدَنِك, وكُلَّ مِفْصَلٍ في بَدَنِكَ, حَياتُكَ بِدُونِه ناقِصَةٌ, بَلْ تَصْعُبُ عليكَ الحياةُ بِدُونِه. وَمِن أَجْلِ ذلكَ يَسَّرَ اللهُ على عِبادِهِ ورَضِيَ بِالعملِ اليَسِيرِ في مُقابَلَةِ نِعَمِهِ الكثيرة. فإذا سبَّحْتَ اللهَ وحَمِدْتَه, وكَبَّرْتَ وهَلَّلتَ عَدَدَ هذه المفاصِلِ السِّتِّينَ والثلاثِمائة, فقد تَصَدَّقْتَ عنها. وكذلك لَوْ قُلْتَ: سُبْحانَ اللهِ والحمدُ للهِ ولا إلهَ إلا الله ُواللهُ أكبر فِي يَوْم, فَقَدْ تَصَدَّقْتَ عَن مَفاصِلِك. 

وكَذلكَ لو نَوَّعْتَ أعْمالَك, ما بين ذِكْرٍ ونصيحةٍ وإماطَةِ أذىً وإعانةِ ضعيفٍ وإغاثَةِ مَلْهُوفٍ وغيرِ ذلك, فَبَلَغَتْ عَدَدَ هذه المفاصلِ فَقَدْ تصدَّقت عَنْها. وبإمكانِك أَنْ تَجْمَعَ ذلكَ كُلَّه في ركعتينِ تَرْكَعْهُما مِن الضُّحَى كَما وَرَدَ في الحديث. فَيَا لَهُ مِنْ تَيْسِيرٍ وسَمَاحَة, ويَا لَهُ مِن فَضْلٍ كَبيرٍ مِنَ الله, يَدُلُّ عَلَى رحمتِه الواسعةِ بعبادِه.

فَتَأّمَّل يا عَبْدَ اللهِ, وتَفَكَّرْ: لَوْ أَنَّكَ مُطالبٌ كُلَّ يومٍ بِمُقَابَلَةِ كُلِّ عُضْوٍ ومِفْصَلٍ مِنْ هذه المَفاصِلِ بِالشُّكْرِ عَلَى حِدَه!!!. بَلْ إِنك لَوْ كُلِّفْتَ بالتفَرُّغِ والتَّعَبُّدِ لله مِنْ أجْلِ أداءِ شُكْرِ نِعْمَةِ عُضْوٍ واحدٍ مِن أعضائك, لَمْ تَتَمَكَّن مِنْ الوفاءِ بِذلك. 


إِنَّ هذا التَّفَكُّرَ يَدْعوكَ إلى الذُّلِّ والانكِسارِ بَينَ يَدَي الله, والحياءِ مِنه, والشُّعُورِ بالتَقْصيرِ. وَيَدعُوكَ أيضاً إلى الرِّضا وَعَدَمِ التَسَخُّطِ عِنْدَ حُلُولِ المُصِيبَة, لأنه سَيَجْعَلُكَ تقول: إذا سُلِبَتْ مِنِّي نعمةٌ واحدة, فَقَد بَقِيَ لِي نِعمٌ كثيرةٌ لا تُحْصَى. ويَدْعُوكَ أيضاً إلى اجْتِنابِ مَعْصِيَةِ الله, وعدمِ استعمالِ هذِه الأعضاءِ في مَعْصِيةِ الله. هذِه الأعضاءُ التي أنْعَمَ اللهُ عليك بِها وَيَسَّرَ لَكَ طريقَ شُكْرِ نِعْمَتِها, كيف تُعَطِّلُها عن عِبادةِ الله؟!! وكيفَ تُشْغِلُها في مَعْصِيَةِ الله؟!!


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق