( عاقبة البغي والظلم )
أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه، فإن تقواه عون للعبد في الشدائد، وعدة في المضائق ) وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ( .
أيها الناس: تمتلئ نفس الجهول بالكبر والعظمة فلا ترى لأحد قدرا، ولا تفيه حقا.. وتنازع الله تعالى في خصائصه، مع ظنها أن الناس إنما خلقوا لأجلها.. هذه النفوس الظالمة الخاطئة تدفع أصحابها إلى العلو على الناس، والفساد في الأرض، والبغي بغير الحق..
والبغي كلمة قبيحة يجتمع فيمن اتصف بها الكبر والعلو والاعتداء.. فهو استعلاء بغير حقّ، ومجاوزة النفس قدرها واستحقاقها، ينتج عنه اعتداء على الغير، وليس غريبا أن تجتمع شرائع النبيين عليهم السلام على تحريمه، وجاء تحريمه في القرآن مقرونا بالشرك ( قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ )
ونهى الله تعالى عنه بصريح القول ) إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىوَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ(
وأكد النبي صلى الله عليه وسلم ما جاء في القرآن فقال "إِنَّ اللهَ أَوْحَى إِلَيَّ أَنْ تَوَاضَعُوا حَتَّى لَا يَفْخَرَ أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ، وَلَا يَبْغِي أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ" مسلم.
وبغي الإنسان يكون على نفسه وعلى غيره؛ فبغيه على نفسه بعمل ما يوجب لها العذاب من الشرك فما دونه من المعاصي ، فهو ظلم للنفس عظيم
ومن أقبح البغي وأشده أن يسأل الناس ربهم سبحانه وتعالى في شدائدهم، ويعاهدوه على الأوبة إليه، والتوبة من الذنوب؛ فإذا كشف الله تعالى كربهم، ورفع بأسهم، وأزال شدتهم؛ نكثوا عهدهم، عادوا إلى سابق حالهم ) فَلَمَّا أَنْجاهُمْ إِذا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ) وهذا من أعظم ما يكون ضررا على الناس في الدنيا والآخرة ) يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا( .
وأما البغي على الغير فيؤدي إلى ظلم الناس، والعلو عليهم، وبخسهم حقوقهم، ويشتد قبح ذلك وذم صاحبه حين يكون الباعث على البغي نعمة حصلت لصاحبها قابلها بالبغي بدل الشكر؛ كما وقع لقارون الباغي؛ فإنه كان من عامة الناس فرزقه الله تعالى مالا عظيما فبغى بسببه
) إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ) ونُصح فقيل له (وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ) لكنه لم يرعو عن بغيه، ولم ينته عن فساده، ونسب نعم الله تعالى إلى نفسه فكانت النتيجة (فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ (، وكم من صاحب مال وجاه يسير سيرة قارون في بغيه وعلوه على الناس، فيكفر نعم الله تعالى عليه؟!
والغالب أن الباعث على هذا النوع من البغي هو حب الدنيا، والتعلق بها، والتنافس عليها.. فمن حصلها بغى على من دونه بالكبر والظلم والاعتداء، ومن لم يحصلها وهو متعلق بهاحسد من حصلها فبغى عليه بالغيبة والنميمة والبهتان،
ومن أعلام النبوة أن النبي صلى الله عليه وسلم قد أخبر بوقوع ذلك في أمته فوقع على مقتضى خبره، كما روى أَبَو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قال: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِوَسَلَّمَ يَقُولُ "سَيُصِيبُ أُمَّتِي دَاءُ الْأُمَمِ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَمَا دَاءُ الْأُمَمِ؟ قَالَ: الْأَشَرُ وَالْبَطَرُ وَالتَّكَاثُرُ وَالتَّنَاجُشُ فِي الدُّنْيَا وَالتَّبَاغُضُ وَالتَّحَاسُدُ حَتَّى يَكُونَ الْبَغْيُ " رواه الحاكم وصححه، وفي رواية : "حَتَّى يَكُونَ الْبَغِيُّ، ثُمَّ يَكُونَ الْهَرْجُ" السلسلة الصحيحة
فالبغي يؤدي إلى الاقتتال، وأكثر ما يقع من القتال في الأرض بغي بسبب التنافس على الدنيا، والتكاثر فيها.
والصد عن سبيل الله تعالى، ومعاداة أوليائه، ومحاربة دينه تجمع نوعي البغي، فيبغي صاحبها على نفسه بحرب الله تعالى، ويبغي على غيره بإيذائهم على الدين، ومعاداتهم بسببه، ومن عادى ولياُ لله تعالى فقد آذنه بالمحاربة، وهو ما يقع من الكفار والمنافقين، المحادين لله تعالى، المعاندين لشريعته.
وأشهر من جمع هذين النوعين من البغي فرعون (وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْياً وَعَدْواً ( وكم في هذا الزمن من فراعنة بغوا على دين الله تعالى بالصد عنه ومحاربته، وعلى الناس بالعلو عليهم وظلمهم؟!
ومن بُغي عليه بقول أو فعل جاز له الانتصار لنفسه، وإنصافها ممن بغى عليه، ولا لوم عليه في ذلك ( وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ * إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ )
ومن دعاء النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ربه سبحانه وتعالى "وَانْصُرْنِي عَلَى مَنْ بَغَى عَلَيَّ" رواه الترمذي وقال حسن صحيح.
والمبغي عليه منصور؛ لأن الله تعالى وعد المظلوم المبغي عليه بالنصر ) ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ )
إن عاقبة البغي وخيمة، وإن خواتم أصحابه خواتم سوء، وإن في مصارعهم ما يزجر عن البغي من مصير فرعون الأول، إلى نهايات فراعنة هذا العصر الذين آذوا الناس في ربهم ونبيهم ودينهم، ومنعوهم حقوقهم، واستعلوا عليهم. وعقوبة البغي معجلة في الدنيا؛ كما في حديث أَبِي بَكْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "مَا مِنْ ذَنْبٍ أَجْدَرُ أَنْ يُعَجِّلَ اللَّهُ تَعَالَى لِصَاحِبِهِ الْعُقُوبَةَ فِي الدُّنْيَا مَعَ مَا يَدَّخِرُ لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِثْلُ الْبَغْيِ وَقَطِيعَةِ الرَّحِمِ" رواه أبو داود وصححه الترمذي.
قال ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما: "لَوْ بَغَى جَبَلٌ عَلَى جَبَلٍ لَجَعَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ الْبَاغِيَ مِنْهُمَا دَكًّا".
فالحذر الحذر -عباد الله- من البغي على أحد من الناس بقول أو فعل، أو إعانة باغ على بغيه، ولو كان المبغي عليه كافرا أو فاسقا؛ لأن الله تعالى قد حرم الظلم تحريما مطلقا، والبغي من أفحش الظلم وأشده، وكلما كان المبغي عليه أكثر إيمانا واستقامة على أمر الله تعالى كان البغي عليه أفحش من البغي على من هو دونه، ومن أدعية الصباح والمساء التعوذ بالله تعالى من أن يقترف الإنسان على نفسه سوء أو يجره إلى مسلم.. نعوذ بالله تعالى من البغي على الخلق، وبطر الحق، وغمط الناس، والفساد في الأرض، ونسأله تعالى أن ينصرنا على من بغى علينا..
الخطبة الثانية :
أيها المسلمون: من نظر في كثرة النصوص الناهية عن البغي، المحذرة منه، المخبرة بتعجيل عقوبته، ثم تأمل عاقبة أهل البغي وما حل بهم من العقوبة والنكال والذل والهوان؛ خاف البغي، وحاسب نفسه، وأمسك عن كل قول أو فعل فيه بغي على أحد..
وكان لحليم العرب قَيْسِ بْنِ عَاصِمٍ رحمه الله تعالى ثَلَاثَةٌ وَثَلَاثُونَ ابْنًا، وَكَانَ يَنْهَاهُمْ عَنِ الْبَغْيِّ، وَيَقُولُ "إِنَّهُ وَاللَّهِ مَا بَغَى قَوْمٌ قَطُّ إِلَّا ذُلُّوا. "
إن من الناس من يرتزق بالبغي على غيره، ويتسلق على جثته ليبلغ منزلة يريدها، وذلك بالوشاية فيه، والكذب عليه، والطعن فيه، فما أفدح جرمه! وما أعظم جنايته! وما أسرع عقوبته!! يتسلق على إخوانه لنيل عرض من الدنيا مظنون، فويل له ثم ويل له.
فاحذوا البغي فإن عاقبته وخيمة ونهايته أليمة والله سبحانه وتعالى بعدله وتحريمه للظلم لابد ان يقتص للمظلوم من الظالم ولو بعد حين ، فلا تغرنك قوة في بدنك او مال في حسابك اوسلطة تحت يدك او واسطة تحمي ظهرك
عن جابر قال : لما رجعت مهاجرة الحبشة عام الفتح إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : ألا تخبروني بأعجب ما رأيتم بأرض الحبشة ؟ فقال فتية كانوا منهم : بلى يا رسول الله بينما نحن يوماً جلوس إذ مرت بنا عجوز من عجائزهم تحمل على رأسها قلة ماء ، فمرت بفتى منهم فجعل إحدى يديه بين كتفيها ثم دفعها فخرت المرأة على ركبتيها و انكسرت قلتها.
فلما قامت التفتت إليه ثم قالت : سوف تعلم يا غادر إذا وضع الله الكرسي و جمع الله الأولين و الآخرين و تكلمت الأيدي و الأرجل بما كانوا يكسبون . سوف تعلم من أمري و أمرك عنده غداً . قال فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : " صدقت كيف يقدس الله قوماً لا يؤخذ من شديدهم لضعيفهم ؟ ".
و قيل لما حبس خالد بن برمك و ولده قال : يا أبتي بعد العز صرنا في القيد و الحبس . فقال : يا بني دعوة مظلوم سرت بليل غفلنا عنها و لم يغفل الله عنها ،
و كان يزيد بن حكيم يقول : ما هبت أحداً قط هيبتي رجلاً ظلمته ، و أنا أعلم أن لا ناصر له إلا الله يقول لي : حسبي الله : الله بيني و بينك
بعثَ عُمر -وهو الخليفةُ العادلُ الذي لا تأخُذُه عاطفةٌ عن الحق والتتبُّع-، أرسلَ عُمر رجالاً يسألون عن سعد بن ابي وقاص رضي الله عنه في مجالسِ الكوفة، فكانوا لا يأتون مجلِسًا إلا أثنَوا عليه خيرًا، وقالوا معروفًا، حتى أتَوا مسجدًا من مساجِدِهم فقال رجلٌ يُقال له: أبو سَعدة، فقال: اللهم إذ سألتُمُونا فإنه كان لا يعدِلُ في القضية، ولا يقسِمُ بالسَّوِيَّة، ولا يسيرُ بالسرِيَّة!
وهكذا الظالمُ إذا تبِعَ هواه انطلَقَ لسانُهُ بما يهوَى، وانطلَقَت جوارِحُه بما تهوَى نفسُه الأمَّارة. فقال سعدٌ: "اللهم إن كان كاذِبًا فأعمِ بصرَه، وأطِل فقرَه، وعرِّضْه للفتن". قال عبدُ الملك -راوي الحديث-: فأنا رأيتُه يتعرَّضُ للإماءِ في السِّكَكِ، فإذا قيل له: انتَهِ يا أبا سَعدة! قال: كبيرٌ فقيرٌ مفتونٌ أصابَتني دعوةُ سعدٍ.
معاشر المسلمين: إن دعوةَ المظلوم سهامٌ لا تُخطِئ، وسلاحٌ على الظالمِ لا يُبقِي وإن طالَ الدهرُ، قال -صلى الله عليه وسلم- لمُعاذ بن جبلٍ -رضي الله عنه- حين بعثَه إلى اليمن"واتَّقِ دعوةَ المظلومِ؛ فإنه ليس بينها وبين الله حجابٌ". متفق عليه.
وفي السنن بسندٍ حسنٍ أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال "دعوةُ المظلومِ تُحمَلُ على الغَمام، وتُفتحُ لها أبوابُ السماوات، ويقول الربُّ -جل وعلا-: وعزَّتي! لأنصُرنَّكِ ولو بعد حينٍ".
وإن من سُوء عاقبةِ الظلمِ أن دعوةَ المظلومِ مُستجابةٌ حتى ولو من الفاجرِ أو الكافرِ؛ روى أحمد في مسنده بسندٍ حسنٍ أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "لا تُردُّ دعوةُ المظلومِ ولو كان فاجِرًا ففُجورُه على نفسه".
لقد انتشر البغي بين الناس في هذا الزمن بسبب التنافس على الدنيا ومتاعها وجاهها،
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق