( ومن الناس من يعبد الله على حرف )
( ومن الناس من يعبد الله على حرف فإن أصابه خير اطمأن به وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه خسر الدنيا والآخرة ذلك هو الخسران المبين )
إنها آيات الله العظيمة التي ربطت الماضي بالحاضر وجعلته في حلقة واحدة , فتحدثت عن القلوب المنافقة التي تريد المنفعة الظاهرة والكسب الشخصي العاجل مقابل أي عمل تؤديه حتى لو كان هذا العمل هو الإيمان !
إنها مشكلة عصرية متفاقمة , تسببت في انقلاب بعض الناس عن سبيلهم المستقيم , جزعاًعند الأزمات ونفورا عند البليات , وقد بين لنا سبحانه أن الابتلاء سنة ربانية " ألم أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لايفتنون "
بل والنبي صلى الله عليه وسلم وضح ذلك للمؤمنين بقوله :" إذا أحب الله عبدا ابتلاه "
فينقيه ويصفيه , فيصبح كما قال صلى الله عليه وسلم في الحديث " يفارق الدنيا وما عليه ذنب "
لكن حال الناس تغير عن ذلك , فإذا أصابه خير اطمأن به وسكن , لكن عندما يُختبر يجزع وينقلب , حتى صارت معاملات الناس كلها على شرط الرد بالمثل أو افضل .
وكذلك هو حال البعض الآن في أعمالهم إذا قدم الخدمة لصاحب أو قريب يقدمها وينتظر الأجر أو ينتظر الرد
وهكذا حال البعض مع ربه يتعاهد معه سبحانه ويقبل على العبادة عند اقدامه على أمر ما يصعب عليه أو يخشى منه كامتحان أو تجارة او دراسة او وظيفة او مرض ,أو أي شيء من أمور دنياه , وعندما ينال ما يتمني ينسى العهد مع ربه وينقلب على وجهه .
و البعض يعاهد الله على الوصال معه سبحانه كلما زاد عنده المال والخير وينقلب عند أول صدمة او عند أول خسارة او عند أول مصيبة ..
ولعل ذلك يتبين من سبب نزول الآية الكريمة – كما قال القرطبي - في اليهودي الذي نزلت فيه حينما قال للنبي صلى الله عليه وسلم : أدع لي ربك ان يرزقني مالا وإبلا وخيلا وولدا حتى أؤمن بك , فدعا له صلى الله عليه وسلم , فرزقه الله عز وجل ما تمنى , ثم أراد الله تعالى فتنته واختباره وهو أعلم به , فأخذ منه ما رزقه به بعد أن أسلم ,فأتي النبي صلى الله عليه وسلم وقال له : أقلني فقد ذهب بصري ومالي وولدي بعد أن أسلمت , فأنزل الله تبارك وتعالى فيه " ومن الناس من يعبد الله على حرف فإن أصابه خير اطمأن به وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه خسر الدنيا والآخرة ذلك هو الخسران المبين " الحج 11
قال بعض المفسرين "على حرف " أي على شك بغير ثقة وقال البعض منهم " على حرف " أي على شرط , يريد ان يقدم العبادة لله تعالى بعيدا عن الاختبارات والابتلاءات على شرط النفع الدائم والكسب الدائم وإلا انقلب
دخلوا الإسلام ، لكنهم لم يحققوا في قلوبهم معنى لا إله إلا الله .. محمد رسول الله فصاروا يعبدون الله على حافة هاوية .. على حافة هاوية عميقة مهلكة .. فهم على وشك السقوط والضلال .. عند أدنى هزة أو ابتلاء .. وهم يأخذون الدين قضية تجارة ومقايضة ونفع مادي .. ويصف ابن عباس ـ رضي الله عنهما – بعض أولئك المساكين فيقول : كان الرجل يقدم المدينة .. فان ولدت امرأته غلاماً .... أو نتجت خيله ... قال : هذا دينٌ صالح .. وان لم تلد امرأته .. ولم تنتج خيله قال : هذا دين سوء ...
وعن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : كان ناس من الأعراب يأتون النبي صلى الله عليه وسلم فيسلمون ، فإذا رجعوا إلى بلادهم ، فإن وجدوا عام غيث وعام خصب وعام ولادحسن ، قالوا " إن ديننا هذا لصالح ، فتمسكوا به " وإن وجدوا عام جدوبة وعام ولاد سوء وعام قحط ، قالوا " ما في ديننا هذا خير " فأنزل الله على نبيه) ومن الناس من يعبد الله على حرف فإن أصابه خير اطمأن به وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه(
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : هو المنافق ، إن صلحت له دنياه أقام على العبادة ، وإن فسدت عليه دنياه وتغيرت ، انقلب فلا يقيم على العبادة إلا لما صلح من دنياه ، فإن أصابته فتنة أو شدة أو اختبار أو ضيق ، ترك دينه ورجع إلى الكفر
والآية الكريمة .. تصور هذا الإنسان بأنه على حرف ..غير متمكن في العقيدة ولا ثابت في العبادة .. في حركة جسدية متأرجحة .. قابلة للسقوط .. عند الدفعة الأولى ..ومن ثم ينقلب على وجهه عند مس الفتنة ...
ومن الناس من يعبد الله إذا أصابه خير أو رخاء كان هادئ البال ساكنا , وإذا أصابته فتنة انقلب على وجهه فقد خسر الدنيا والآخرة.
فالناس معادن كما وضح لنا النبي صلى الله عليه وسلم " الناس معادن فخيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام اذا فقهوا " , فيظهر معدن الإنسان المؤمن فيكون ارتباطه بالله تعالى حبا لله ولذاته ولثواب الآخرة العظيم , والثقة به سبحانه وتعالى
أمّا نبينا الكريم صلى الله عليه وسلم فقد ضرب لنا المثل العبادي الأعلى في جميع أحواله فكان إذا حل به الخير قال الحمد لله , وإن نزل به البلاء قال الحمد لله على كل حال , فهذا نبينا الكريم صلى الله عليه وسلم الذي كان يعبد ربه في السراء والضراء فيقدم الحمد في تلك الحالتين .
وعندما يتعرض المؤمنون للاختبارات والامتحانات والابتلاءات والفتن ما يزيدهم ذلك إلا قربا إلى الله وليس بعدا أو انقلابا .
ما رواه الترمذى وأبو داود والنسائى عن عمرو بن شعيب عن أبيه ، عن جده قال : كان رجل يقال له " مرثد بن أبى مرثد " كان يحمل الأسارى من مكة حتى يأتى بهم المدينة . قال : وكانت امرأة بَغِىٌّ بمكة يقال لها " عناق " وكانت صديقة له - أى فى الجاهلية - وأنه واعد رجلا من أسارى مكة يحمله ، قال : فجئت حتى انتهيت إلى ظل حائط من حوائط مكة فىليلة مقمرة قال : فجاءت " عناق " فأبصرت سواد ظلى تحت الحائط ، فلما انتهت إلى عرفتنى ، فقالت : مرثد؟ فقلت : مرثد فقالت : مرحبا وأهلا . هلم فبت عندنا الليلة . فقال : فقلت : يا عناق . حرم الله الزنا . فقالت : يا أهل الخيام هذا الرجل يحمل أسراكم . قال : فتبعنى ثمانية و دخلت الخندمة - أى جبل بمكة - فانتهيت إلى غار . . . فأعماهم الله - تعالى - عنى . ثم رجعوا فرجعت إلى صاحبى فحملته إلى المدينة
قوله ) ولقد كان الرجل يؤتى به يهادى بين الرجلين حتى يقام في الصف ) معنى يهادى أي يمسكه رجلان من جانبيه بعضديه يعتمد عليهما
الخطبة الثانية :
(وَمِنْهُم مَّنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِن فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ (75 ( فَلَمَّا آتَاهُم مِّن فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوا وَّهُم مُّعْرِضُونَ (76) فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَىٰ يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ )
ومن المنافقين من أعطى الله عهده وميثاقه : لئن أغناه من فضله ليصدقن من ماله ، وليكوننمن الصالحين . فما وفى بما قال ، ولا صدق فيما ادعى ، فأعقبهم هذا الصنيع نفاقا سكن في قلوبهم إلى يوم يلقون الله - عز وجل - يوم القيامة ، عياذا بالله من ذلك.
هذا الإنسان المتقلب ، هش الإيمان ضعيف العقيدة ... مادام الخير والمال يأتيه أو حصل على وظيفة أو منصب أو ربح في بيع أو شراء فهو مطمئن القلب بإيمانه ظاهراً .. بل ربما اعتقد أن ذلك لفضله وصلاحه ورضا الله عنه حتى إذا سلب منه شيء من ذلك ظهر مرض قلبه فانقلب على وجهه وانتكس راجعاً في إيمانه ... وبدأ يحتج على ربه ... ويتضجر من قضائه وقدره.. حتى تنهار إرادته وينهار إيمانه فيخسر بذلك الدنيا والآخرة ... وذلك هو الخسران المبين
ويدخل في هذا نوع من الناس ... من تمسكوا بالدين وقت الرخاء حتى إذا مسهم البلاء .. وتغير عليهم الناس نكصوا على أعقابهم ... وتخلوا عن دعوتهم .. وجعلوا فتنة الناس كعذاب الله ... وربما أخلد بعضهم إلى الأرض .. واستكانوا للمناصب والشهوات .. وبحثوا لأنفسهم عن العلل والمعاذير .. التي لا تغنيهم عند الله فتيلا.....
كما يدخل في هذا كل الذين .. آمنوا بالله .. على أساس المصلحة .. والمنفعة العاجلة واتخذوا الدين ... تجارة مادية محسوسة حتى إذا أصابهم الله ، بشيء من الخوف والجوع .. أو نقص من الأموال والأنفس والثمرات .. انقلبوا وارتدوا على أعقابهم ...
.لذلك لابد على المسلم أن يملأ قلبه ثقة بخالقه فيحيا واثقا بأن الله تعالي حق , وأن محمد صلى الله عليه وسلم حق , والجنة حق , والنار حق , فعندما يذكر الله تعالى يذكره حبا لله ولذكر الله , ويستغفر الله سبحانه حبا للوصول لمحبته , ويدخل للصلاة لأنها وقت اللقاء بربه أي وقت اللقاء بالمحب , وليس دخوله إليها كواجب لابد من تأديته فحسب .
فهذه النوايا الإيمانية وضحها لنا الحديث الشريف عندما قال صلى الله عليه وسلم " إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرؤ ما نوى "
فالله تعالى يعلم إذا كان المسلم يذهب إلى الصلاة لأداء الصلاة المطلوبة منه أم يذهب ليرائي الناس , ويعلم أن إخراجه للصدقة تقربا لله تعالى أم ليقال عليه متصدق, يعلم إذا كان يذهب لبر والديه تقرباً لله تعالى الذي أوصى بهما في كتابه , أم يذهب لرعايتهم كي لا يقول عليه الناس أنه أهمل والديه .
إن العمل في كل الأحوال ربما يتم لكن أجره وثوابه يتغير بنواياهم . فلا نريد أن نعبد الله تعالى وقت الرخاء ونترك عبادته وقت الشدة أو العكس .
إن المحب لمن يحب مطيع , فالذي يحب الله خالصا واثقا به سبحانه وتعالى هو الذي يطيع ويحمد وقت الرخاء والشدة و وقت الفرح والحزن .
إنه الله تعالى الذي ليس لنا رب سواه , والذي أنعم علينا بنعمه التي لا تحصى , فهو الذي يستحق الحب من القلب والطاعة التي ليست مصحوبة بشرط ولا شك . الذي لا ملجأ و لا منجا منه الاّ إليه في كل أحوالنا
فلابد أن نعيد ترتيب أوراقنا من جديد وليسأل كل منا نفسه ... هل يعبد الله تعالى على حرف ؟
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق