( تحريم الاتجار بالبشر )
أَمَّا بَعْدُ: اتَّقُوا اللهَ وَرَاقِبُوهُ، وَامْتَثِلُوا أَمْرَهُ وَاجْتَنِبُوا نَهْيَه، وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ -عَزَّ وَجَلَّ- أَنْعَمَ عَلَيْنَا بِشَرِيعَةٍ كَامِلَةٍ شَامِلَةٍ، لَمْ تَتْرُكْ شَيْئَاً إِلَّا وَقَدْ جَاءَتْ فِيهِ بِحُكْمٍ وَتَوْجِيه، عَرَفَهُ أَهْلُ الْعِلْمِ وَغَفَلَ عَنْهُ مَنْ قَصُرَ عِلْمُه، قَالَ اللهُ -تَعَالَى-: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا)[المائدة:3].
َفِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ حَيْثُ اللِّقَاءِ الْحَاشِدِ وَالَّذِي أَعْلَنَ فِيِهِ النَّبِيُّ الْكَرِيمُ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَوَّلَ مِيثَاقٍ مُتَكَامِلٍ لِحُقُوقِ الْإِنْسَانِ أَيْنَمَا كَانَ، يُنَظِّمُ فِيهِ الْمَعَالِمَ الْفَاصِلَةَ بَيْنَ أَفْرَادِ الْمُجْتَمَعِ، وَيُبَيِّنُ الْمِيزَانَ الْعَدْلَ الَّذِي لَا يُخْطِئُهُ الْعَدْلُ، وَالَّذِي يَبَيُّنُ الْفَرْقَ بَيْنَ أَفْرَادِ المجْتَمَعِ، فَقَالَ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: “يَا أَيُّهَا النَّاسُ، أَلَا إِنَّ رَبَّكُمْ وَاحِدٌ، وَإِنَّ أَبَاكُمْ وَاحِدٌ، أَلَا لَا فَضْلَ لِعَرَبِيٍّ عَلَى أَعْجَمِيٍّ، وَلَا لِعَجَمِيٍّ عَلَى عَرَبِيٍّ، وَلَا لِأَحْمَرَ عَلَى أَسْوَدَ، وَلَا أَسْوَدَ عَلَى أَحْمَرَ إِلَّا بِالتَّقْوَى، أَبَلَّغْتُ؟ قَالُوا: بَلَّغَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، ثُمَّ قَالَ: أَيُّ يَوْمٍ هَذَا؟ قَالُوا: يَوْمٌ حَرَامٌ، ثُمَّ قَالَ: أَيُّ شَهْرٍ هَذَا؟ قَالُوا: شَهْرٌ حَرَامٌ: قَالَ: ثُمَّ قَالَ: أَيُّ بَلَدٍ هَذَا؟ قَالُوا: بَلَدٌ حَرَامٌ، قَالَ: فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ حَرَّمَ بَيْنَكُمْ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا، فِي شَهْرِكُمْ، هَذَا فِي بَلَدِكُمْ هَذَا، أَبَلَّغْتُ؟ قَالُوا: بَلَّغَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: لِيُبَلِّغْ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ“(رواه أحمد وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة 3700).
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: دِينُنَا الْحَنِيفُ دِينٌ مُبَارَكٌ قَرَّرَ مَبْدَأَ الْعدل عَمَلياً بَعْدَ أَنْ قَرَّرَهَا نَظَرِيًّا، وَمَنْ ذَلِكَ مَا نَلْحَظُهُ فِي مَسَاجِدِ الْإِسْلَامِ؛ حَيْثُ تُقَامُ صَلَاَةُ الْجُمُعَةِ وَالْجَمَاعَةِ فَتَأْخُذُ الْعدل صُورَتَهَا الْعَمَلِيَّةَ، وَتَزُولُ كُلُّ الْفَوَارِقِ الَّتِي تُمَيِّزُ بَيْنَ النَّاسِ، فَمَنْ دَخَلَ الْمَسْجِدَ أَوَّلًا أَخَذَ مَكَانَهُ فِي مُقَدَّمَةِ الصُّفُوفِ، وَإِنْ كَانَ أَقَلَّ النَّاسِ مَالاً، وَأَضْعَفَهُمْ جَاهًا وَنَسَبًا وَشَكْلاً.
وَهَكَذَا فِي الْحَجِّ؛ حَيْثُ يتَحَقَّقُ الْعدل بِشَكْلِ وَاضِحٍ، وَيتَجَسَّدُ تَجَسُّدَا عَجِيبَا مِنَ التَّجَرُّدِ مِنْ لُبْسِ الْمَلَاَبِسِ الْعَادِيَّةِ، وَلُبْسُ لِبَاسِ وَاحِدٍ يَسْتَوِي فِيهِ الْقَادِرُ وَالْعَاجِزُ، وَالْغَنِيُّ وَالْفَقِيرُ، وَالْمَلِكُ وَالْمَمْلُوكُ، مُلَبِّينَ بِهُتَافِ وَاحِدِ: “لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبِّيِّكَ“.
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: كَمَا أَنَّ دِينَنَا الْحَنِيفَ يَرْعَى حُقوقَ الْإِنْسَانِ وَيُنَظِّمُهَا فَإِنَّهُ أَيْضًا يَمْنَعُ أَيَّ صُورَةٍ فِيهَا اِنْتِهَاكٌ لِحُقوقِ الْإِنْسَانِ وَكَرَامَتِهِ، وَالَّتِي مِنْهَا:
الْاِتِّجَارُ بِالْبَشَرِ، وَاِسْتِغْلَاَلُ ضَعْفِهِمْ وَحَاجَتِهِمْ بِتَجْنِيدِهِمْ، أَوْ نَقْلِهِمْ، أَوِ اِسْتِقْبَالِهِمْ وَإِيِوَائِهِمْ، أَوِ اِسْتِعْمَالِهِمْ لِقَصَدِ التَّكَسُّبِ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَشْكَالِ الْقَسْرِ، أَوِ الْاِخْتِطَافِ، أَوِ الْاِحْتِيَالِ، أَوِ الْخِدَاعِ، أَوْ إِسَاءةِ اِسْتِعْمَالِ السُّلْطَةِ، أَوْ إِسَاءةِ اِسْتِغْلَاَلِ حَالَةِ ضَعْفِهِمْ، ، قَالَ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) “قَالَ اللَّهُ: ثَلاثَةٌ أنَا خَصْمُهُمْ يَومَ القِيامَةِ: رَجُلٌ أعْطَى بِي ثُمَّ غَدَرَ، ورَجُلٌ باعَ حُرًّا فأكَلَ ثَمَنَهُ، ورَجُلٌ اسْتَأْجَرَ أجِيرًا فاسْتَوْفَى مِنْهُ ولَمْ يُعْطِ أجْرَهُ“(أخرجه البخاري
فَهَؤُلَاءِ خَصْمُهُمُ اللهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَلَا تَغُرَّنَكَ -يَا عَبْدَاللَّهِ- قُوَّتُكَ، وَقُوَّةُ لِسَانِكَ وَحِجَجِكَ، وَضَعْفُ هَذَا الْإِنْسَانُ وَقِلَّةُ حِيلَتِهِ، فَاللهُ أَقْوَى وَأَعَزُّ، فَالَّذِي أَغْنَاكَ وَأَعْطَاكَ، قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَسْلُبَ نَعَمَتَهُ مِنْكَ، فَتَعُودُ فقيرًا كَمَا كَانَ هَذَا الْإِنْسَانُ فقيرًا، وَالْجَزَاءُ مِنْ جِنْسِ الْعَمَلِ.
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: اسْتَمِعُوا لِهَذِهِ الْقِصَّةِ الْمُعَبِّرَةِ، عَنِ الْمَعرُورِ بْنِ سُوَيْد -رَحِمَهُ اللهُ- قَالَ: رَأَيْتُ أَبَا ذَرٍّ بِالرَّبَذَةِ، وَعَلَيْهِ بُرْدٌ غَلِيظٌ، وَعَلَى غُلَامِهِ مِثْلُهُ، قَالَ: فَقَالَ الَقَوْمُ: يَا أَبَا ذرٍّ، لَوْ كُنْتَ أَخَذْتَ الذِي عَلَى غُلامِكَ، فَجَعَلْتَهُ مَعَ هَذَا، فَكَانَتْ حُلَّةً، وَكَسَوْتَ غُلَامَكَ ثَوْبًا غَيْرَهُ، قَالَ: فَقَالَ أَبُو ذَرٍّ: إِنِّي كُنْتُ سَابَبْتُ رَجُلاً وَكَانَتْ أُمُّهُ أَعْجَمِيَّةً، فَعَيَّرْتُهُ بِأُمِّهِ، فَشَكَانِي إِلَى رَسُول اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ : "يَا أَبَا ذَرٍّ، إِنَّكَ امْرُؤٌ فِيكَ جَاهِلِيَّةٌ.. إنَّهُمْ إِخْوَانُكُمْ فَضَّلَكُمُ اللهُ عَلَيْهِمْ، فَمَنْ لَمْ يُلائِمُكُمْ فَبِيعُوهُ، وَلا تُعَذِّبُوا خَلْقَ اللهِ" (رَوَاهُ أَبُو دَاوُودَ وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ).
هَذِهِ قِصَّةٌ عَجِيبَةٌ فِي مُعَامَلَةِ الْمَمَالِيكِ، وَهُمْ الْعَبِيدُ عِنْدَ سَادَتِهِمْ فَجَاءَ الإِسْلَامُ بِاحْتِرَامِهِمْ وَتَقْدِيرِهِمْ وَالْقِيَامِ بِحَقِّهِمْ وَالتَحْذِيرِ مِنِ احْتِقَارِهِمْ، هؤلاء الْعُمَّالِ الذِينَ يَعْمَلُونَ عِنْدَنَا وَالذِينَ جَاؤُوا مِنْ بِلادِهِمْ لِطَلَبِ لُقْمَةِ الْعَيْشِ لَهُمْ وَلِأُسَرِهِمْ،
اعْلَمُوا أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ أَنَّ هَؤُلاءِ الْعُمَّالِ فِي الْغَالِبِ الْكَثِيرِ مُسْلِمُونَ، بَلْ جُلُّهُمْ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ، فَلَهُمْ عَلَيْنَا حَقُّ أُخُوَّةِ الإِسْلَامِ وَحَقُّ الضِّيَافَةِ، فَلا بُدَّ إِذِنْ أَنْ نَسْتَحْضِرَ هَذَا عِنْدَ مُعَامَلَةِ إِخْوَانِنَا الذِينَ جَاؤُوا لِلْعَمَلِ فِي بِلَادِنَا.
إِنَّ هَؤُلاءِ وَإِنْ جَاؤُونَا الْيَوْمَ فِي بِلَادِنَا فَقَدْ كُنَّا نَأْتِيهِمْ فِي بِلَادِهِمْ بِالْأَمْسِ، وَكَم مِنْ كِبَارِ السِّنِّ يَذْكُرُونَ أَنَّ بَعْضًا مِنَّا يُسَافِرُ إِلَى بِلَادٍ فِي دُوَلِ الْخَلِيجِ أَوِ الْهِنْدِ لِلْعَمَلِ هُنَاكَ، بَلْ إِنَّ عُلَمَاءَ السُّوادَانِ قَدْ أَفَتَوْا قَبْلَ مَا يُقَارِبُ مِائَةَ سَنَةٍ بِبَعْضِ الزَّكَاةِ إِلَى بِلَادِ نَجْدٍ؛ لِأَنَّهَا كَانَتْ تُعَانِي مِنْ فَقْرٍ وَمَجَاعَةٍ، فَهَلْ نَعْتَبِرُ، وَنَتَذَكَّرُ أَنَّ الْأَيَّامَ دُوَلٌ، وَأَنَّ النِّعَمَ تَزُولُ، وَأَنَّ مِنْ أَسْبَابِ زَوَالِهَا الظُّلْمَ وَالطُّغْيَانَ وَالتَّكَبُّرَ، قَالَ اللهُ -تَعَالَى (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ)[إبراهيم:7].
جَاءَ الْإِسْلَامُ بِحَقِّ الْعَامِلِ وَالتَّحْذِيرِ مِنْ ظُلْمِهِ أَوْ أَكْلِ أُجْرَتِهِ، وَمِنْ أَشَدِّ الْأَحَادِيثِ الْمُحَذِّرَةِ مَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-، عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، قَالَ: " قَالَ اللَّهُ: ثَلاَثَةٌ أَنَا خَصْمُهُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ: رَجُلٌ أَعْطَى بِي ثُمَّ غَدَرَ، وَرَجُلٌ بَاعَ حُرًّا فَأَكَلَ ثَمَنَهُ، وَرَجُلٌ اسْتَأْجَرَ أَجِيرًا فَاسْتَوْفَى مِنْهُ وَلَمْ يُعْطِ أَجْرَهُ".
فَتَأَمَّلْ وَاحْذَرْ يَا مَنْ تَأْكُلُ حَقَّ الْعَامِلِ الْمِسْكِينِ الضَّعِيفِ؛ إِنَّ الذِي يُخَاصِمُكُ يَوْمَ القِيَامَةِ لَيْسَ الْعَامِلَ، وَإِنَّمَا هُوَ رَبُّ الْعَالَمِينَ، فَكَيْفَ الْمَفَرُّ؟ وَأَيْنَ الْمَهْرَبُ؟ وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم " أُعْطُوا الْأَجِيرَ أَجْرَهُ قَبْلَ أَنْ يَجِفَّ عَرَقُهُ"(رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ، وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ).
فَيَا أَيُّهَا الْمُسْلِمُ: احْذَرِ الظُّلْمَ عُمُومًا وَظُلْمَ الْعُمَّالِ خُصُوصًا؛ لِأَنَّهُمْ ضُعَفَاءُ وَلا حِيلَةَ لَهُمْ، فَكَيْفَ يَحِلُّ لَكَ أَخْذُ مَالِ هَذَا الْمِسْكِينِ وَتَنَامُ قَرِيرَ الْعَيْنِ؟ وَإِنَّ مِمَّا يُؤْسَفُ لَهُ جِدًّا أَنَّ بَيْنَنَا أُنَاسًا لا يُبَالُونَ مِنْ أَيِّ الْمَالِّ أَكَلُوا أَوْ أَطَعَمُوا أَبْنَاءَهُمْ، أَمِنْ كَدِّ الْفَقِيرِ وَتَعَبِهِ؟ أَمْ مِنْ حَقِّ الْعَامِلِ وَسَعْيِهِ؟
فَكَمْ مِنَ الرُّؤَسَاءِ وَأَصْحَابِ الْمُؤَسَّسَاتِ يَتَطَاوَلُونَ عَلَى مُوَظِّفِيهِمْ وَعُمَّالِهِمْ كَأَنَّهُمْ مَلَكُوا الدُّنْيَا بِلَا حِسَابٍ وَلا عِقَابٍ!، وَكَمْ مِنَ الْكُفَلَاءِ يَمْنَعُونَ الْعُمَّالَ حُقُوقَهُمْ!، وَيُحَمِّلُونَهُمْ فَوْقَ طَاقَتِهِمْ، وَيُمَاطِلُونَ فِي أَدَاءِ مَا لَهُمْ مِنْ رَوَاتِبَ أَوْ مُسْتَحَقَّاتٍ، وَمَا عَرَفَ هَذَا الْمِسْكِينُ أَنَّ الْعَامِلَ الْمَظْلُومَ رُبَّمَا رَفَعَ يَدَيْهِ إِلَى اللهِ وَطَرَقَ بَابَ السَّمِيعِ الْعَلِيمِ الذِي لا يَغْفَلُ وَلا يَنَامُ، فُتُصِيبُهُ صَوَاعِقُ الدُّعَاءِ وَهُوَ لا يَدْرِي! بِسَبَبِ ظُلْمِهِ وَتَجَبُّرِهِ عَلَيْهِ، وَهَذَا الْكَفِيلُ الظَّالِمُ نَسِيَ قُدْرَةَ اللهِ عَلَيْهِ، وَأَنَّ اللهَ أَقْدَرَ عَلَيْهِ مِنْ قُدْرَتِهِ عَلَى هَؤُلاءِ الضَّعَفَةِ.
عن أبي مسعود البدري رضي الله عنه قال: "كنت أضرب غلامًا لي بالسُّوط، فسمعت صوتًا من خلفي: «اعلم أبا مسعود»، فلم أفهم الصَّوت من الغضب، قال: فلمَّا دنا منِّي إذا هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا هو يقول: «اعلم، أبا مسعود، اعلم، أبا مسعود»، قال: فألقيت السَّوط من يدي، فقال: «اعلم، أبا مسعود أنَّ الله أقدر عليك منك على هذا الغلام»، قال: فقلت: لا أضرب مملوكًا بعده أبدًا". وفي رواية: فقلت: "يا رسول الله، هو حرٌّ لوجه الله، فقال: «أما لو لم تفعل لَلَفَحتك النَّار، -أو لمسَّتك النَّار-»" مسلم
عِبَادَ اللَّهِ : إن الاتجار بالبشر أحد أشكال الرق في العصر الحديث، وهو انتهاك لحقوق الإنسان وحرياته الأساسية، ومن صوره: الاتِّجار بالنِّساء والأطفال؛ لأغراض الدَّعارة، والاستغلال الجنسيِّ، وبيع الأعضاء البشريَّة، وبيع الأطفال؛ لِغَرض التبنِّي، والسِّياحة الجنسيَّة، واستغلال الأطفال في النِّزاعات المُسَلَّحة في بعض الدول، واستغلال الأطفال في أعمال التسوُّل، إلى غير ذلك فالإسلام حرم وجرم الاتجار في البشر بصوره المختلفة، ومن ذلك:تحريم وتجريم بيع الأحرار: فحرَّم الإسلام أن يُباع الإنسان الحُرُّ أو أن يُشرى، كبيراً كان أم صغيراً، ذكراً أم أنثى، غنياً أم فقيراً.
وسدَّت الشريعة الإسلامية كل المنافذ المؤدية إلى المتاجرة بالبشر ومن ذلك المتاجرة بأجساد النساء فأمرت بالحجاب وحرمت السفور والتبرج ، قَالَ تَعَالَى :﴿ يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاء الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً ﴾[الأحزاب: 59].
وأمرت الرجال بغض البصر قَالَ تَعَالَى :﴿قل لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ، وَقُل للمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ ﴾[النور: 30-31]. ونهت الشريعة عن استخدام النساء والأطفال في البِغَاء، قَالَ تَعَالَى :﴿ وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاء إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَن يُكْرِههُّنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِن بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾
الخطبة الثانية:
إنه شابٌّ له قلبٌ ينبضُ بالمشاعرِ، يتمنى شقةً يَمتلكُها ويَجمعُ فيها أُسرتَه، له وطنٌ يَشتاقُ إليه، له أمٌّ يحنُّ لنبرةِ صوتِها. انظر إليهِ والنعاسُ يغلبُه؛ سيذهبُ إلى غرفةٍ مزدحمةٍ بأمثالِه! ثم سيشتركُ معهم في طبخِ طعامهِ ليسدّوا جوعتَهم. هذا الرجلُ سيُلقِي بجسمهِ المكدودِ على فراشٍ بالٍ. يتخيّلُ نفسَه وقد جمعَ خلالَ سنواتٍ بضعةَ آلافٍ من الريالاتِ، يُحصلُها أحدُنا في شهرٍ واحدٍ؛ ليعودَ بعدما شابَ شعرهُ إلى أولادهِ ومَن تبقَى مِن والدَيهِ الذِين أضناهمُ انتظارُه.
أتدري مَن هو؟! إنه عاملُك في مؤسستِك أو مزرعتِك، إنه راعي بهائمِك. وإنَ أمثالَ هؤلاءِ لَيحتاجونَ إلى مشاعرَ نُقاسمُهم فيها البسمةَ والدمعةَ، يَتطلعونَ إلى أن نُحسَّ بآدميتِهِم ونُراعيَها، يُريدون أن نُشعِرهم بأنهم إخوةٌ فحسب!
وأما الخادمةُ في البيتِ فهي أمٌّ!! لديها أطفالٌ! لكنهم هناكَ بل هنالِك! وهي هنا؛ هنا في بيوتِنا، تنظفُ المطبخَ والأرضياتِ، وتغسِلُ الملابسَ والحماماتِ! هل تظنون أنها نسيَتْ أو سَلَتْ عن تَذكُرِ صِغارِها؟! لقد وَدعتهُم وضَمّتهُم في آخِر لحظةٍ بالمطارِ، وقلبُها يكادُ يذوبُ تحرُّقًا من ألمِ فراقهِم! وتزدادُ اللوعةُ كلما تذكّرتْ أن غَيبتَها ليست شهراً ولا شهرَيْن، بل سنتَيْن بأعيادِهما الأربعة!!
وبالرغمِ من هذه المشاعرِ في قلوبِ هؤلاءِ العمالةِ ذكورًا وإناثًا، إلا أن بعضَنا يتعاملُ معهم، وكأنهم آلاتٍ استورَدَها؛ لتعملَ فقط متى أرادَ.
ومِن ظُلمِ العاملِ والخادمةِ: احتقارُهم أو شتمُهم، أو تكليفُهم بعملٍ شاقٍ لا يطيقونَه، أو إجبارُهم على العملِ في شدةِ القيلولةِ، أو ساعاتٍ إضافيةٍ بلا رضاهُم.
إِنَّ مِنْ صُوَرِ ظُلْمِ الْعُمَّالِ إِرْهَاقَهُمْ وَإِتْعَابَهُمْ بِمَا لا يُطِيقُونَ مِنَ الْعَمَلِ، أَوْ تَغْيِيرِ عُقُودِهِمْ لِأَعْمَالٍ رَدِيئَةٍ غَيْرِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهَا، وَهَذَا كُلُّهُ مِنَ الظُّلْمِ الَّذِي قَالَ اللهُ -تَعَالَى- فِيهِ: ( وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ)[الأنبياء:47].
كانَ يزيدُ بنُ حكيمٍ يقولَ: ما هِبتُ أحدًا قطُّ هيبَتي رجُلاً ظلمتُه، وأنا أعلمُ أنه لا ناصِرَ له إلا الله، ثُمَّ يقولُ: "حسبِيَ الله، الله بيني وبينَك".
لا تَظلِمَنَّ إِذا ما كُنتَ مُقتَدِراً *** فَالظُلمُ مَرتَعُهُ يُفضي إِلى النَّدَمِ
تَنامُ عَينُكَ وَالمَظلومُ مُنتَبِهٌ *** يَدعو عَلَيكَ وَعَينُ اللَهِ لَم تَنَمِ
ونُوَجِّهُ كَلِمَةً لِلْعُمَّالِ -وَفَّقَهُمُ اللهُ-، فَنَقُولُ: أَخِي الْعَامِلَ: اتَّقِ اللهِ فِي نَفْسِكَ، اتِّقَ اللهَ فِي عَمَلِكَ، اتَّقِ اللهِ فِيمَا تَعْمَلُ، وَتْأَخْذُ مِنْ مَالٍ، فَإِنَّ اللهَ سَائِلُكَ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبْتَهُ، وَاعْلَمْ أَنَّهَا أَمَانَةٌ فِي عُنُقِكَ وَأَنْتَ مَسْؤُولٌ عَنْهَا، قَالَ -تَعَالَى ( يَا أَيُّهَا الذِينَ آمَنَوا لا تَخُونُوا اللهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتَكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونُ)[الأنفال
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق