( إقامة الحدود )
أَيُّهَا المُسلِمُونَ ، شَرِيعَةُ الإِسلامِ هِيَ أَكمَلُ الشَّرَائِعِ وَأَيسَرُهَا ، رُفِعَتِ عَنَّا فِيهَا الآصَارُ وَالأَغلالُ الَّتي كَانَت عَلَى مَن قَبلَنَا ، وَلَم يَجعَلِ اللهُ عَلَينَا فِيهَا حَرَجًا بِوَجهٍ مِن الوُجُوهِ ، قَالَ – تَعَالى - : " وَمَا جَعَلَ عَلَيكُم في الدِّينِ مِن حَرَجٍ "
وَقَالَ - سُبحَانَهُ - : " لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفسًا إِلاَّ وُسعَهَا "
وَقَد أَتَمَّهَا – سُبحَانَهُ - لِتَشمَلَ شُؤُونَ حَيَاتِنَا كُلَّهَا ، فَلا نَحتَاجُ مَعَهَا إِلى غَيرِهَا ، وَلا نَضطَرُّ إِلى مَزِيدٍ عَلَيهَا ، قَالَ – تَعَالى - : " اليَومَ أَكمَلتُ لَكُم دِينَكُم وَأَتمَمتُ عَلَيكُم نِعمَتي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسلامَ دِينًا "
وَقَالَ - سُبحَانَهُ - : " وَنَزَّلنَا عَلَيكَ الكِتَابَ تِبيَانًا لِكُلِّ شَيءٍ " وَإِنَّهُ كُلَّمَا أَمسَتِ الأُمَّةُ عَاضَّةً عَلَى هَذِهِ الشَّرِيعَةِ بِنَوَاجِذِهَا ، آخِذَةً بِأَحكَامِهَا في كُلِّ شُؤُونِهَا ، غَدَت ظَافِرَةً غَالِبَةً ، مَهِيبًا جَنَابُهَا ، مَحفُوظَةً حُقُوقُ أَفرَادِهَا ، وَافِرًا حَظُّهَا مِنَ الهُدَى وَالسَّعَادَةِ وَالرَّحمَةِ ، وَالمَتَاعِ الحَسَنِ وَالسَّعَةِ وَالبَرَكَةِ ،
وَكُلَّمَا ضَعُفَت في عَصرٍ أَو مِصرٍ أَو جَانِبٍ ، فَأَخَذَت بِالشَّرَائِعِ البَاطِلَةِ وَرَكَنَت إِلى القَوَانِينِ الوَضعِيَّةِ ، وَتَحَاكَمَت إِلى الطَّاغُوتِ وَرَضِيَت حُكمَهُ ، أَصَابَهَا الذُّلُّ وَمُنِيَت بِالهَزِيمَةِ ، وَعُوقِبَت بِضَعفِ الحَالِ وَفَسَادِ المَعَايِشِ وَضَيَاعِ الحُقُوقِ ، وَرَتَعَت في مَهَاوِي الضَّلالِ وَالشَّقَاءِ وَالضَّنكِ ثم العَذَابِ ، قَالَ – سُبحَانَهُ - : " قَالَ اهبِطَا مِنهَا جَمِيعًا بَعضُكُم لِبَعضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأتِيَنَّكُم مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشقَى . وَمَن أَعرَضَ عَن ذِكرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحشُرُهُ يَومَ القِيَامَةِ أَعمَى "
وَقَالَ – تَعَالى - عَن أَهلِ الكِتَابِ : " وَلَو أَنَّهُم أَقَامُوا التَّورَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيهِم مِن رَبِّهِم لأَكَلُوا مِن فَوقِهِم وَمِن تَحتِ أَرجُلِهِم "
وَقَالَ – تَعَالى - : " الر . كِتَابٌ أُحكِمَت آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَت مِن لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ . أَن لا تَعبُدُوا إِلاَّ اللهَ إِنَّنِي لَكُم مِنهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ . وَأَنِ استَغفِرُوا رَبَّكُم ثُمَّ تُوبُوا إِلَيهِ يُمَتِّعْكُم مَتَاعًا حَسَنًا إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤتِ كُلَّ ذِي فَضلٍ فَضلَهُ وَإِن تَوَلَّوا فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيكُم عَذَابَ يَومٍ كَبِيرٍ "
أَجَلْ – أَيُّهَا المُؤمِنُونَ – إِنَّ شَرِيعَةَ اللهِ الَّتِي أَنزَلَهَا عَلَى عِبَادِهِ مِن لَدُنْ آدَمَ وَمَن بَعدَهُ ، إِنَّهَا لَهِيَ العَاصِمَةُ لِلأُمَمِ وَالمُجتَمَعَاتِ مِنَ الضَّلالِ في الدُّنيَا وَالشَّقَاءِ في الآخِرَةِ ، إِذْ إِنَّهَا لم تَقتَصِرْ عَلَى مَا يُؤَدِّيهِ العِبَادُ مِن فُرُوضٍ تَعَبُّدِيَّةٍ كَمَا يُرِيدُ أَن يَفهَمَهَا مُدمِنُو الشَّهَوَاتِ ، أَو عَلَى الأَحوَالِ الشَّخصِيَّةِ كَمَا يَتَعَمَّدُ أَن يَقصُرَهَا قَاصِرُو العُقُولِ ،
وَلَكِنَّهَا مَعَ تَقوِيَةِ العَلائِقِ بِرَبِّ الخَلائِقِ ، شَمِلَت عِلاقَةَ النَّاسِ فِيمَا بَينَهُم ، وَتَنَاوَلَت تَنظِيمَ حَيَاتِهِم وَتَرتِيبَ شُؤُونِ مَعِيشَتِهِم ، مِن زَوَاجٍ وَطَلاقٍ وَمِيرَاثٍ ، وَمعَامَلاتٍ مَالِيَةٍ وَاجتِمَاعِيَّةٍ ، وَشُؤُونٍ اقتِصَادِيَّةٍ وَعَسكَرِيَّةٍ ، وَنُظُمٍ سِيَاسِيَّةٍ وَحُدُودٍ وَتَعزِيرَاتٍ ، بَل وَكُلِّ مَا يَحتَاجُونَهُ لِيُؤَسِّسُوا لأَنفُسِهِم حَيَاةً طَيِّبَةً عَلَى هَذِهِ الأَرضِ ، الَّتي جُعِلَ لَهُم فِيهَا مُستَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلى حِينٍ .
وَإِنَّهُ لَمَّا كَانَ الإِنسَانُ بِطَبعِهِ ظَلُومًا جَهُولاً ، لم يُترَكْ لَهُ الخِيَارُ في العَمَلِ بِالشَّرِيعَةِ أَو إِلغَائِهَا ، وَإِنَّمَا أُوجِبَ عَلَيهِ ذَلِكَ إِيجَابًا وَفُرِضَ فَرضًا ، قَالَ - تَعَالى – في مَطلَعِ سُورَةِ النُّورِ : " سُورَةٌ أَنزَلنَاهَا وَفَرَضنَاهَا وَأَنزَلنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لَعَلَّكُم تَذَكَّرُونَ " إِعلانٌ بِفَرَضِيَّةِ هَذِهِ السُّورَةِ الَّتي أُنزِلَت مِن رَبِّ العَالمِينَ ، وَشُرِعَ فِيهَا حَدُّ الزِّنَا وَالقَذفِ وَضَوَابِطَ اللِّعَانِ ، وَذُكِرَ فِيهَا كَثِيرٌ مِن آدَابِ الإِسلامِ كَالحِجَابِ وَالاستِئذَانِ وَطَاعَةِ الرَّسُولِ .
وَقَالَ – سُبحَانَهُ – في أَوَّلِ سُورَةِ المَائِدَةِ : " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوفُوا بِالعُقُودِ " ثم ذَكَرَ كَثِيرًا مِنَ العُقُودِ وَالحُدُودِ ، كَتَحرِيمِ أَنوَاعٍ مِنَ الأَطعِمَةِ ، وَوُجُوبِ العَدلِ مَعَ الأَعدَاءِ ، وَفُرُوضِ الوُضُوءِ وَالتَّيَمُّمِ ، وَأَحكَامِ القِتَالِ وَالقِصَاصِ وَالسَّرِقَةِ ، ثُمَّ قَالَ - سُبحَانَهُ - بَعدَ ذِكرِ طَائِفَةٍ مِن هَذِهِ العُقُودِ وَالحُدُودِ : " وَأَنزَلنَا إِلَيكَ الكِتَابِ بِالحَقِّ مُصَدِّقًا لما بَينَ يَدَيهِ مِنَ الكِتَابِ وَمُهَيمِنًا عَلَيهِ فَاحكُمْ بَينَهُم بما أَنزَلَ اللهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهوَاءَهُم عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الحَقِّ
"
أَيُّهَا المُسلِمُونَ ، العُقُوبَاتُ في الإِسلامِ وَالحُدُودُ وَالتَّعزِيرَاتُ لَيسَت تَعذِيبًا وَلا تَشَفِّيًا ، وَلا رَدًّا لِلكَيلِ صَاعًا بِصَاعٍ وَلا انتِقَامًا ، وَلَكِنَّ لها أَهدَافًا سَامِيَةً وَغَايَاتٍ حَمِيدَةً وَحِكَمًا بَالِغَةً ، فَفِيهَا التَّطهِيرُ وَالتَّكفِيرُ ، وَفِيهَا القِصَاصُ وَالتَّعوِيضُ ، وَفِيهَا الزَّجرُ وَالرَّدعُ ،
فَعَن عُبَادَةَ بنِ الصَّامِتِ – رضي الله عنه - قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وَحَولَهُ عِصَابَةٌ مِن أَصحَابِهِ : " بَايَعُوني عَلَى أَن لا تُشرِكُوا بِاللَّهِ شَيئًا وَلا تَسرِقُوا وَلا تَزنُوا وَلا تَقتُلُوا أَولادَكُم وَلا تَأتُوا بِبُهتَانٍ تَفتَرُونَهُ بَينَ أَيدِيكُم وَأَرجُلِكُم وَلا تَعصُوا فِي مَعرُوفٍ ، فَمَن وَفَى مِنكُم فَأَجرُهُ عَلَى اللَّهِ ، وَمَن أَصَابَ مِن ذَلِكَ شَيئًا فَعُوقِبَ بِهِ في الدُّنيَا فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ ، وَمَن أَصَابَ مِن ذَلِكَ شَيئًا ثُمَّ سَتَرَهُ اللَّهُ عَلَيهِ في الدُّنيَا فَهُوَ إِلى اللَّهِ : إِن شَاءَ عَفَا عَنهُ وَإِن شَاءَ عَاقَبَهُ " مُتَّفَقٌ عَلَيهِ .
وَأَمَّا حِكمَةُ القِصَاصِ فَهِيَ ظَاهِرَةٌ ، وَذَلِكَ أَنَّهُ يُؤخَذُ مِنَ الجَاني بِقَدرِ جِنَايَتِهِ ، فَالنَّفسُ بِالنَّفسِ ، وَالعَينُ بِالعَينِ ، وَالأَنفُ بِالأَنفِ ، وَالأُذُنُ بِالأُذُنِ ، وَالسِّنُّ بِالسِّنِّ ؛ فَلَيسَت نَفسُ الجَاني وَلا شَيءٌ مِن جَوَارِحِهِ بِأَعزَّ وَلا أَغلَى مِن نَفسِ المَجنِيِّ عَلَيهِ أَو جَوَارِحِهِ ،
وَمِثلُ ذَلِكَ التَّعوِيضُ أَو أَرشُ الجِنايَاتِ ، كَالدِّيَةِ وَتَغرِيمِ أَثمَانِ المُتلَفَاتِ ، حَيثُ يُعَوَّضُ المَجنِيُّ عَلَيهِ مَالاً بِقَدرِ مَا فُقِدَ مِنهُ ، نَفسًا كَانَت أَو عُضوًا أَو مُمتَلَكًا ، فَذَلِكَ يَشفِي صَدرَهُ إِن كَانَ حَيًّا ، وَإِلاَّ كَانَ تَعوِيضًا لِوَرَثَتِهِ وَتَطيِيبًا لِخَوَاطِرِهِم وَشِفَاءً لِصُدُورِهِم
وَحِينَمَا يُقَامُ الحَدُّ عَلَى مُجرِمٍ أَمَامَ النَّاسِ وَعَلَى مَشهَدٍ مِنهُم ، فَإِنَّ ذَلِكَ رَدعٌ لَهُ عَن مُعَاوَدَةِ الجُرمِ ، وَكَفٌّ لِغَيرِهِ إِذَا رَأَى العُقُوبَةَ وَعَايَنَ الجَزَاءَ ، وَلِذَلِكَ فَرَضَ اللهُ في عُقُوبَةِ الزِّنَا أَن يَشهَدَهَا طَائِفَةٌ مِنَ المُؤمِنِينَ ، قَالَ – تَعَالى - : " الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنهُمَا مِئَةَ جَلدَةٍ وَلا تَأخُذْكُم بِهِمَا رَأفَةٌ في دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنتُم تُؤمِنُونَ بِاللَّهِ وَاليَومِ الآخِرِ وَلْيَشهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ المُؤمِنِينَ "
وَقَد ثَبَتَ بِاستِقرَاءِ الأَحوَالِ أَنَّ الحُدُودَ الشَّرعِيَّةَ مَا طُبِّقَت في مَكَانٍ إِلاَّ وَوُئِدَت فيه الجَرِيمَةُ في مَهدِهَا ، وَأَمِنَ النَّاسُ عَلَى أَنفُسِهِم وَعُقُولِهِم وَأَموَالِهِم وَأَعرَاضِهِم ؛ فَبِتَنفِيذِ حَدِّ الزِّنَا يُقطَعُ دَابِرُ البِغَاءَ وَيَقِلُّ أَولادُ السِّفَاحِ ، وَبِتَنفِيذِ حَدِّ شُربِ المُسكِرَاتِ تُصَانُ العُقُولُ ، وَبِقَطعِ يَدِ السَّارِقِ وَقَتلِ القَاتِلِ وَالمُرتَدِّ ، وَإِقَامَةِ حَدِّ الحِرَابَةِ عَلَى البَاغِي ، تَأمَنُ السُّبُلُ وَالمَسَالِكُ ، وَتُسَدُّ الثُّغُورُ وَتُحمَى المُمتَلَكَاتُ ، وَتُحفَظُ الأَموَالُ وَتُصَانُ النُّفُوسُ ، وَتُحقَنُ الدِّمَاءُ وَيُرتَدَعُ عَن إِزهَاقِهَا ،
وَمِن ثَمَّ يَنتَشِرُ النَّاسُ في الأَرضِ لِيَبتَغُوا مِن فَضلِ اللهِ ، وَتَزدَهِرُ التِّجَارَةُ وَالزِّرَاعَةُ وَتَنمُو الصِّنَاعَةُ ، وَيَصِيرُ المُجتَمَعُ مُجتَمَعَ خَيرٍ وَبَرَكَةٍ وَنَمَاءٍ وَرَخَاءٍ ، وَيَطِيبُ العَيشُ وَتَنتَظِمُ أَسبَابُ الحَيَاةِ ، وَصَدَقَ - صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ – إِذْ قَالَ : " إِقَامَةُ حُدٍّ في الأَرضِ خَيرٌ لأَهلِهَا مِن أَن يُمطَرُوا أَربَعِينَ لَيلَةً " رَوَاهُ النَّسَائيُّ وَابنُ مَاجَه وَصَحَّحَهُ الأَلبَانيُّ .
أيها المسلمون: إن الناس يدركون لغة الأرقام، ويستوعبون ويقدِّرون حجم الكلام بالأرقام أكثر من الكلام العام، وإليكم -أيها الأحبة- هذه الإحصائية بالأرقام عن معدل الجريمة في الولايات المتحدة الأمريكية، فهذه الدولة هي التي تنادي بحقوق الإنسان، وتعترض على الدول التي يُطبَّق فيها شرع الله على المجرمين، زاعمة بأن هذا قسوة، وظلم للإنسانية.
تقول الإحصائية، وهي منشورة عند وكالة التحقيق الفدرالية والتي تسمى(إف.بي.آي)، تقول بأن الجرائم في أمريكا معدلها جريمة كل 3 ثوان، ويشير التقرير إلى أن جريمة قتل ترتكب كل 27 دقيقة، وجريمة اغتصاب كل 7 دقائق، وجريمة سرقة كل 63 ثانية، وسرقة سيارة كل 31 ثانية، وسطو على منزل كل 10 ثوان، وسرقة أمتعة صغيرة كل 5 ثوان. والإحصائية منشورة في الشرق الأوسط.
أين أنظمتهم؟ وأين جبروتهم وقوتهم؟ وأين ضبط الأمن عندهم؟ إنه لا نظام ولا أمن ولا قوة إلا في تحكيم شرع الله، وإن أي تهاون أو تساهل في تطبيق الحدود سيؤدي إلى مثل هذه الإحصائية وأشد منها، إنه ليس بين الله -جل وعلا- وبين أحدٍ نسب، إنها سنن، وإنه دين، من أخذه فاز في الدنيا والآخرة، ومن أعرض عنه، أو قصر في تطبيقه، أو تهاون في بعضه، فإنها مطارق السنن الإلهية لا محالة، ( وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا، وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى )
الخطبة الثانية :
إذا كان الهدفُ من وضع نظام العقوبات هو محاربةَ الجريمة، ومنعَ وقوعها، ورفعَ آثارها، فإن الشريعة الإسلامية بما تضمنته من تشريعات قد بلغت الغايةَ في تحقيق هذا المطلب، ووصلت حدًّا لم يوصل إليه، ولن يصل إليه أيُّ تشريع وضعه البشر قديما أو حديثا؛ وذلك لأن شريعة الإسلام كافحت الجريمة قبل وقوعها بالوسائل الإيمانية والتربوية والوقائية التي تمنع وقوع الجريمة أصلاً، ثم كافحتها بعد وقوعها بالأحكام والعقوبات الأنسب في إزالة آثارها ومنع تكرارها.
وقد شهد التاريخ القديم والحديث أن الشريعة الإسلامية هي النظام الوحيد الكفيل بتحقيق الأمن بمعناه العام، والقادر على قطع دابر المفسدين والمجرمين ومكافحة الفساد والإجرام. وعند التأمل في سرّ هذا النجاح في التشريعات الإسلامية نجده يكمن فيما امتاز به من خصائص وسمات، تفتقدها القوانين الوضعية، أعظم هذه الخصائص أن مصدر هذا التشريعات من القرآن والسنة، يعني من الله. فمصدر تميزِ شريعة الإسلام أن العقوبات الشرعية من وضع الخالق الحكيم الذي أحاط بكل شيء علماً، والذي خلق الإنسان، ويعلم ما يُصلحه ويسعده في عاجل أمره وآجله، وقد جعل الله هذه التشريعات لا تحابي أحداً، ولا تجامل طبقة على حساب طبقة، أو جنساً على حساب جنس، ولهذا فأحكامها كلها قد جاءت وفق الحكمة والعدل والرحمة والمصلحة، بخلاف القوانين الوضعية التي تخضع للعقول البشرية القاصرة، وأهوائهم الضالة، ومصالحهم الشخصية؛ بل ويُغيّر فيها من غلب بما يناسبه من قوانين وتشريعات.
وبهذا يعلم أن من خصائص دولة الإسلام أنّها دولة تضمن إقامة العدل بتطبيق شرع الله وبإقامة حدوده.
وبهذا يحيا المجتمع في أمنٍ وأمان من خلال الوازع الإيماني الفردي الداخلي (بتقوى الله)، ووازع السلطان على المجتمع ككل (بإقامة الحدود والتعزيرات الشرعية).
فإذا شذّ شاذٌ وطغت حيوانية إنسان على عقله وتعدّى حدودَه أتى القصاص وأتت الحدود سياجًا منيعًا يحمي المجتمع، ويزرع وازع الخوف من العقاب - إن لم يوجد لديه وازعُ التقوى - لكل من تسوِّل له نفسُه؛ ليحول دون إقدامه على العدوان.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق