صنائع المعروف
أيَّها المسلمون : إنَّ ممَّا يميزُ هذا الدينَ العظيم عن غيرهِ من الأديانِ المحرفة، والشرائعِ المُبدلة، عنايتَه بإقامةِ جسورٍ من الترابطِ الوثيق بين أفرادِ المجتمع، وتحقيقِ مفهومِ الجسدِ الواحد الذي إنْ اشتكى منه عضوٌ تداعى لـه سائرُ الجسد بالحُمى والسهر، من هنا ،
من هنا نجدُ القرآنَ الكريم يَعرضُ نماذجَ واقعية ، ومشاهدَ حية، تُجسدُ ذلك المعنى الكبير، وتُشوقُ النفوسَ الخيَّرة إلى صنائعِ المعروف، وبذلِ الإحسانِ للآخرين، دونَ مَنٍ أو أذى. ولقد كـان أسرعُ الناسِ إلى صنائعِ المعروف وبـذلِ الإحسانِ للآخرين، هم أولئكَ الرجالَ العظام، من رسلِ اللهِ وأوليائهِ، أولئك الرجال الذين امتلأتْ أحاسيسُهم ومشاعرُهم بحاجات الناس، ورقتْ قلوبُهم وأفئدتهم لمعاناةِ المبتَلينَ من عبادِ الله، فتحولَ ذلك الحسُ المرهف، والشعورُ النبيل إلى ممارسةٍ عملية، وواقعٍ محسوس، يُقدمُ من خلاله العونُ برحابةِ صدرٍ، ويُسدى من خلاله المعروفُ لله ولله فقط. فإليك هذا المشهدَ الحي، وهذا الأنموذجَ الخالد لرسولٍ من أولي العزم، الذي أُمرنا أن نقتفيَ أثرهم، ونستنَ بسنتهم حتى يقضي اللهُ أمراً كان مفعولا .
هذا نبيُ اللهِ موسى عليه الصلاة و السلام ، يخرجُ من أرضِ مصر خائفاً يترقب متوجهاً إلى بلادِ مدين، تلك التي لا يعرفُ فيها أحداً يهدئُ روعته، ويؤنسُ وحشتَه !
فَيَصِلُ أرضَ مدين بعد رحلةٍ شاقة، وعناءٍ مستمر، يصلُها وقد بلغَ منه الإعياءُ مبلَغه، وأخذَ منه الجهدُ مأخذَه، يصلُها بقلبٍ مرتجف، ونفسٍ خائفةٍ وغُربةٍ مُستحكمةٍ، فيجدُ جموعاً من الناس تزدحمُ حولَ بئرٍ من الماءِ يسقون. ويلفتُ انتباهَه من بعيد مشهدُ امرأتين تذودان أغنامهما، في معزلٍ عن الناس حياءً وحشمةً ووقاراً، يلفتُ انتباهَه هذا المشهد، فتتحركُ نخوةُ هذا الشهمِ البطل، رُغمَ تَعبِه ورُغمَ إعياءِه، رُغمَ خَوفِه، رُغمَ جُوعِه، رُغمَ ظَمأهِ، ويقتربُ من المرأتين على استحياء، ما خطبكُما ؟!
سؤالٌ مختصر، لا حاجَة معه إلى مقدماتٍ شيطانيه، تُحركُ كوامنَ الشرِّ في النفوس، وتؤججُ فتيلَ الفتنةِ في القلوب، ما خطبكما ؟ فيأتيه الجوابُ على قدرِ السؤال، دونَ تميعٍ أو تغنجٍ، أو انكسار، قالتا لا نسقي حتى يُصدر الرعاء وأبُونا شيخٌ كبير، ما كانَ لنا أن نزاحمَ الرجالَ من أجلِ الماء، فيأبى علينا حياؤُنا ذلك، وتأباه حشمتُنا ووقارُنا، وعفافُنا، فنحن ننتظرُ انصرافَهم، وأبونا شيخٌ كبير، شيخ ٌكبير عاجزٌ عن أداءِ المهمة،
وهنا يتناسى موسى عليه الصلاة والسلام نفسَه المجهدة، وطاقتَه المستنفذَة، يتناسى جوعَه وتعبَه وإعياءَه، يتناسى غربتَه وهمَّه وحزنَه، يتناسى ذلك كلَّه، وتدفعُه نخوتُه وشهامتُه ومروءته، وطيبُ معدنه، إلى مدِّ يدِ العونِ لهما، مع أنَّه للعونِ أحوج، وإلى تقديمِ الإحسان إليهما، وهو للإحسان أفقر!
فسقى لهما ثم تولَّى إلى الظل، لم ينتظرْ كلمةَ شكر، أو عبارةَ ثناء، فسؤالُه لـلمرأتين كان لله، واستماعُه لـلجواب كان لله، وسقيُه لهما كان لله . (( فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ )) (القصص:24).
إنه ينزلُ حاجتَه بربه، ويطلبُ المددَ من خالقه، الذي لا تنفدُ خزائنُه، ولا ينقصُ ملكُه: ((رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ)) (القصص: 24 ).
فأنا فقير إلى عطائك، محتاج إلى نعمائك، لا أنتظر من غيرك أجراً، ولا من سواك فضلاً.
أيها الأحبة في لله ؟ إننا قد نجد من يسدي معروفاً، أو يقدم إحساناً حين يطلب منه، ويكون متهيئاً مستعداً لـه، لكن أن تجد من يُسدي المعروف، ويقدم الإحسان من غير أن يُطلب منه، وعلى حين ضعف وإعياء وجهد، فهذا قد لا يتكرر إلا في شخص كموسى – علية الصلاة والسلام - وأمثاله، ممَّن يعرفون كيف تُحصد الأجور، ويُصنع الثواب .
أيها الأحبةُ الأفاضل..
وأما الأنموذج الثاني: فهو يتجسد من خلال شخص محمد صلى الله عليه وسلم الذي هو آية في الإحسان وبذل المعروف، حتى قبل أن يتلقى وحي السماء، وتفيض على قلبه أنوار النبوة، أنظر إليه وهو يتحنث في غار حراء بعيداً عن سخافات الجاهلية وعبثها، وفجورها وانحرافها، فلا يشعر إلاّ وجبريل عليه السلام يفاجئه بما لم يخطر له على بال، وينبئه بآي من الذكر الحكيم، لم يسمع من قبل لها مثيلا، فيرتجف قلبه، وترتجف بوادره، ويعود مفزوعاُ، مكروباُ،
فيدخل على زوجه الحنون، زملوني زملوني، فتُهدئ من روعه، وتهون من فزعه، وتقسم بالله غير حانثة، والله لا يخزيك الله أبداً، إنك لتصل الرحم، وتصدق الحديث، وتحمل الكل، وتكسب المعدوم، وتُقري الضيف ، وتُعين على نوائب الحق، تذكره بتلك الخصال النادرة، التي لازمته عليه الصلاة السلام ، والتي كُلّها إحسانٌ للآخرين، وإحساسٌ بهم، وتفريجٌ لكربهم، وتلك لعمرك خصال لا يتصف بها إلا الكُمَّل منهم، إنّك لتصل الرحم، فمن يصلها اليوم؟! وتصدق الحديث، فمن يصدقه اليوم؟! وتحمل الكل، فمن يحمله اليوم؟! وتكسب المعدوم، فمن يكسبه اليوم؟! وتقري الضيف، فمن يقريه اليوم؟!
تأتيه ابنته فاطمة مجهدة متعبة، فقد أوهن أثر الرحى قواها، وأنهكَ حمل قربَ الماء كتفيها، تأتيه ليهبها خادماُ من السبي، مجرد خادم تخفف عنها كد الرحى، وحمل القرب، فيمتنع رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يهب ابنته خادماُ، يمتنع أن يهب سيدة نساء العالمين وابنة خير المرسلين خادماُ يخدمها لماذا؟ لأنه يريد أن يشترى بثمن السبي طعاماً لأهل الصُفَّة الفقراء، إنّه يشعر ويحس بمعاناة ابنته، ولكن في الوقت نفسه كان يحس بمعاناة أهل الصُفَّة، كان يشعر بجوعتهم بفاقتهم بحرمانهم بآلامهم، فحين تعددت الاحتياجات، كان لابد من البدء بأهل الصفة أولاً، ولتبقى فاطمة بنت محمد – علية الصلاة والسلام - ، منهكة القوى مجهدة الأعصاب، فليست أولى بالسبي منهم،
ويأتيه فقراء مُضر حُفاةً عُراةً، مُجتابي النِمَار، متقلدي السيوف، فيتألم رسول الله صلى اللهعليه وسلم لهيئتهم، ويحزن لمشهدهم، ويعتصر قلبه لحالهم، ويتمعر وجهه لما رأى بهم من الفاقة، فيدخل ثم يخرج ، ثم يأمر بلا لاً فيؤذن ثم أقام فصلى ثم خطب فقال :
تصدقَ رجل من ديناره، تصدق رجل من درهمه، تصدق رجل من ثوبه، تصدق رجل من صاع بره، تصدق رجل من صاع تمره، حتى قال ولو بشق تمره، فيستجيب أصحابه لدعوته، فيجتمع أمامه كوم من طعام، وكوم من ثياب، فإذا بوجهه كأنه مُذْهَبَهٌ،
ترى ما الذي أهمه حين اهتم، وما الذي أغمه حين اغتم ؟! إنّه الإحساس بحاجات الآخرين، ثم ما الذي أفرحه حين فَرِح؟ وما الذي أسعده حين سَعِد؟ إنّه الإحساس بارتياح الآخرين، ويمضي رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ربه قرير العين، هانئ البال، مُخلفاً رجالاً لا كالرجال، فيتولى الصديق مقاليد الأمور، وتندلع فتنة المرتدين ويمتنع الأعراب عن دفع الزكاة ، للخليفة المفجوع بفقدِ حبيبه وقرة عينه، ويضطرب الأصحاب من هول الكارثة، وفداحة المصيبة، فيضغط الصديق على أعصابه، ويحاصر مشاعره، وهو يواجه أعظم فتنة، ويكابد أشد المواقف وأحرجها، همومٌ كالجبال وفتنٌُ كالليل، وظروفٌ ما أقساها، ويجيش رضي الله عنهم الجيوش لقتال المرتدين، وينفذ جيش أسامة إلى الشام، ويعزي آل بيت الرسول بفقيد البشرية، وخسارة الدنيا،
ورغم كل هذه الظروف المفزعة، والأحوال المؤسفة، ينسل الصديق من بين هذا الركام الضخم من الهموم والمشاغل، ينسل قاصداً بيت امرأةٍ عجوز في أطراف المدينة، يحلب لها شاتها ويكنس لها بيتها، ويصنع لها طعامها رحماك يا الله. أي رجال هؤلاء؟! خليفةُ المسلمين وقائدُ الأمةِ، لا تلهيه مشاغلُ الخلافة وتبعاتُها، ولامسؤلياتُ الأمة ومشكلاتها، عن تفقد امرأة عجوز وتلمس حاجاتها، إنّه الإحساس بالآخرين، بالمحتاجين، احتساباً لما عند الله من الأجر والثناء الحسن!
أولئك آبائي فجئني بمثلهم *** إذا جمعتنا يا جرير المجامع
أيها المسلمون : لقد كان إحساس أسلافنا بالآخرين، إحساساً مرهفاً، يصدر من شغافِ القلب، ويلامسُ شفافية الروح، كانوا شديدي الحبِ للفقراءِ والمساكين، كثيري التفقد للضعفاء والمحاويج، حتى إنّ زبيد الحارث الكوفي، كما ذكر الذهبي في السير- كان يخرج في الليلة المطيرة، يطوف على عجائز الحي، يقول ألكم في السوق حاجة؟ ألكم في السوق حاجة؟! فما الذي أخرجه ؟ ولماذا في الليلة المطيرة بالذات؟
وأما حكيم بن حزام فيقول عن نفسه: ما أصبحتُ وليس ببابي صاحب حاجة إلا علمت أنها مصيبة، احتسب أجرها على الله، وإن تعجب من هذين الشهمين الكريمين ! فعجب حالُ علي بن الحسين في الليل يخرج يحمل الطعام على ظهره، يتبع به المساكين في الظلمة، ويقول: إنّ الصدقة في سواد الليل تطفئ غضب الرب،
بل إنّ محمد بن إسحاق ليذكر عن علي هذا، أنّ أناساً كانوا يعيشون بالمدينة لا يدرون من أين يأتيهم معاشهم، فلما مات علي بن الحسين فقدوا ذلك المعاش، ألا ليس المحروم من فقد المال والطعام والشراب، فهذا أجره على الله، ولكن المحروم من قدر على الإحسان بماله ونفسه وجاهه ، فاستبدت به أنانيتُه، وأحاطت به خطيئتهُ، واستولى عليه جشعُه، فلم يعبأ بمحتاج ولا مسكين، ولا أرملة ولا يتيم، ألا ذلك هو الخسران المبين .
الخطبة الثانية :
أيها المسلمون: إنّ في بعض مجتمعات المسلمين اليوم، أُسراً يدكها الفقر دكا، ويهدها العوزُ هداً، يئنُ أطفالهُا من الجوع، ويقض مضاجعها طرقات صاحب البيت يطلب الإيجار، فمن لهؤلاء بعد الله؟! في بيوت المسلمين الأرملة البائسة، والعجوز اليائسة، واليتيم المفجوع، والمقعد المحروم ، فمن يقضي حوائجهم ، ومن يخفف آلامهم، ومن يجفف دموعهم ، ابتغاء ما عند الله من الأجر والثناء الجميل؟! هل أدرك الخيرون على وجه الخصوص مدى فعالية الدعوة إلى الله، من خلال بذل الإحسان لأولئك؟! وبذل صنائع المعروف لهم؟!
أيها المسلمون، إننّا قد نفهم ما يحدث في بلاد الغرب، أو الشرق الكافرين ، من انقطاع وشائج الرحمة ، وانهيار جسور المحبة والوئام ، وما أدى إليه ذلك الانقطاع والانهيار ، من جفاف في المعاملة ، وغياب للإحسان، لكننّا عاجزون عن فهم ما يحصل في بعض مجتمعات المسلمين ، من تصرفات مماثلة، اللهم إلا إذا كان بريق الإيمان ، قد خبت لمعانه في القلوب ، وتكدر صفاؤه في النفوس ، فأضحى الكثيرون أنانّي الطباع ، ميتي الإحساس ، لا همَّ لهم إلا أنفسهم وابناءهم ومصالحهم، قد تبلدت مشاعرهم، وتجمدت عواطفهم. فعز الإحسان في حياتهم، وندر المعروف أن تبذله أيديهم، إننّا معاشر المسلمين، مدعون إلى تلمس احتياجات الآخرين، وإسداء المعروف للمحتاجين، دون منٍ أو أذى ودون انتظار لشكر أو ثناء أو دعاء، فقد كانت عائشة رضي الله عنها، إذا أرسلت إلى قوم بصدقةٍ تقول لمن أرسلته بها، اسمع ما يدعون به لنا، حتى ندعو لهم بمثله، ويبقى أجرنا على الله .
رب حاجة تقوم بها لأرملة، أو رب مسحة على رأس يتيم، أو كفكفةٍ لدمعة محروم ، تكون هي سبب دخولك الجنة، فإنّ للجنة أبواباً، ولدخولها أسباباً، فاحرص على ما ينفعك ولا تعجز .
- في الحديث : ( أحبُّ الناسِ إلى اللهِ أنْفَعُهُمْ لِلنَّاسِ ، و أحبُّ الأعمالِ إلىاللهِ عزَّ وجلَّ سُرُورٌ يدْخِلُهُ على مسلمٍ ، أوْ يكْشِفُ عنهُ كُرْبَةً ، أوْ يقْضِي عنهُ دَيْنًا، أوْ تَطْرُدُ عنهُ جُوعًا ، و لأنْ أَمْشِي مع أَخٍ لي في حاجَةٍ أحبُّإِلَيَّ من أنْ اعْتَكِفَ في هذا المسجدِ ، يعني مسجدَ المدينةِ شهرًا ، و مَنْ كَفَّ غضبَهُ سترَ اللهُ عَوْرَتَهُ ، و مَنْ كَظَمَ غَيْظَهُ ، و لَوْ شاءَ أنْ يُمْضِيَهُ أَمْضَاهُ مَلأَ اللهُ قلبَهُ رَجَاءً يومَ القيامةِ ، و مَنْ مَشَى مع أَخِيهِ في حاجَةٍ حتى تتَهَيَّأَ لهُ أَثْبَتَ اللهُ قَدَمَهُ يومَ تَزُولُ الأَقْدَامِ ، [ و إِنَّ سُوءَ الخُلُقِ يُفْسِدُ العَمَلَ ، كما يُفْسِدُ الخَلُّ العَسَلَ ]
- [رواه ابن أبي الدنيا في قضاء الحوائج، وحسّن الألباني إسناده في السلسلة الصحيحة ح906]
- ( صنائع المعروف تقي مصارع السوء و الآفات و الهلكات و أهل المعروف في الدنيا هم أهل المعروف في الآخرة )
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق