إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

الثلاثاء، 14 يوليو 2015

ماذا بعد رمضان (٢)

( ماذا بعد رمضان )
الخطبة الاولى : 
فيا أيها الناس: اتقوا الله تعالى، وتفكَّروا في سرعة مرور الأيام والليالي، وتذكروا بذلكم قرب انتقالكم من هذه الدنيا، فتزودوا بصالح الأعمال، حلّ بنا شهر رمضان المبارك بخيراته وبركاته ونفحاته، ثم انتهى وارتحل سريعًا، شاهدًا عند ربه لمن عرف قدره واستفاد من خيره بالطاعة، وشاهدًا على من أضاعه وأساء فيه البضاعة.
فليحاسب كل منا -أيها الإخوة- نفسه، ماذا قدم في هذا الشهر، فمن قدم خيرًا فليحمد الله على ذلك، وليسأله القبول والاستمرار على الطاعة في مستقبل حياته، ومن كان مفرطًا فيه فليتب إلى الله، وليبدأ حياة جديدة يشغلها بالطاعة، بدل الحياة التي أضاعها في الغفلة والإساءة، لعل الله يكفر عنه ما مضى ويوفقه فيما بقي من عمره، قال تعالى: (وَأَقِمْ الصَّلاةَ طَرَفِي النَّهَارِ وَزُلَفاً مِنْ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ) [هود:114]، وقال تعالى: (إِلاَّ مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً) [الفرقان:70].

أيها الإخوة الأكارم: كم هو جميل وأنت تنظر لتلك الوجوه المتوضئة الصائمة وهي تنطلق إلى المساجد لتشهد صلاة العشاء ومن ثم صلاة التراويح!

وأجمل منها حينما تنطق تلك الأفواج الإيمانية إلى المساجد بعد منتصف الليل لتصلي ما كتب الله لها!

وأجمل من ذلك كله حينما تذرف تلك الدمعات الحارة الخائفة من عقاب الله والفرحة بثواب الله! ما أجمل ذلك الجو الإيماني المليء بالخشية والإنابة والإخبات والخوف من الجليل!

أخي الحبيب،: إن كنت ممن استفاد من رمضان وتحققتْ فيه صفات المتقين فصمته حقًّا، وقمته صدقًا، واجتهدت في مجاهدة نفسك فيه، فاحمد لله واشكره، واسأله الثبات على ذلك حتى الممات.

وإن أحذرك من شيء فإني أحذرك من نقض الغزل بعد إبرامه وغزله، أرأيت لو أن امرأة غزلت غزلاً وقد استغرق منها شهرًا كاملاً، فصنعت بذلك الغزل أجمل ما يصنعه الغزّالون، لكنها حينما كمل وجمل وأعجبها منظره جعلت تقطع خيوطه وتنقض محكمه، وتحله خيطًا خيطًا دون سبب، فماذا عسى أن يقول الناس عنها؟!

ذلك -يا أخي - هو حال من يرجع إلى المعاصي والفسق والمجون، ويترك الطاعات والأعمال الصالحة بعد رمضان، فبعد أن كان يتقلب في جنان العبادة وبساتينها إذا هو يتنكب عن الطريق، فيتقلب في أوحال المعصية والفجور، فبئس القوم الذين لا يعرفون الله إلا في رمضان.
ولنقض العهد مظاهر كثيرة عند الناس، فمنها على سبيل المثال:

1- ما تراه من تضييع أناس للصلوات المفروضة مع الجماعة، فبعد امتلاء المساجد بالمصلين لأداء الفرض، بل امتلاء المساجد بالمصلين في صلاة التراويح التي هي سنة، إذا بالمساجد قد قل روادها في الصلوات الخمس التي هي فرض يكفر تاركها.

2- ومن ذلك السفر للخارج، فنرى الناس على أبواب وكالات السفر زرافات ووحدانًا، يتسابقون لشراء تذكرة السفر إلى بلاد الكفر والانحلال والفساد وغير ذلك.
وما هكذا تشكر النعم، وما هذه علامة قبول الحسنة
أيها المسلمون: إنه وإن انقضى شهر رمضان فإن عمل المؤمن لا ينقضي قبل الموت، قال تعالى: (وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ) [الحجر:99].

فلئن انقضى صيام شهر رمضان فإن المؤمن لن ينقطع من عبادة الصيام بذلك، فالصيام لا يزال مشروعًا -ولله الحمد- في العام كله؛ ففي صحيح مسلم من حديث أبي أيوب الأنصاري أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "من صام رمضان ثم أتبعه ستًّا من شوال كان كصيام الدهر".

وصيام ثلاثة أيام من كل شهر، وصيام يوم عرفة، والصيام من شهر الله المحرم، وشهر شعبان، وصيام الاثنين والخميس.
ولئن انقضى قيام شهر رمضان، فإن القيام لا يزال مشروعاً ولله الحمد في كل ليلة من ليالي السنة ثابتاً من فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ففي صحيح البخاري عن المغيرة بن شعبة قال: إن كان النبي -صلى الله عليه وسلم- ليقوم أو ليصلي حتى تَرِم قدماه، فيقال له فيقول: "أفلا أكون عبدًا شكورًا".

وروى الترمذي عن عبد الله بن سلام أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "أيها الناس: أفشوا السلام، وأطعموا الطعام، وصلوا الأرحام، وصلوا بالليل والناس نيام، تدخلوا الجنة بسلام".

ومن النوافل التي يُحافظ عليها: الرواتب التابعة للفرائض، وهي اثنتا عشرة ركعة؛ فعن أم حبيبة قالت: سمعت النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: "ما من عبد مسلم يصلي لله تعالى كل يوم ثنتي عشرة ركعة تطوعًا غير الفريضة إلا بنى الله له بيتًا في الجنة". رواه مسلم.

ومن الأعمال الصالحة التي لا تختص برمضان فقط: قراءة القرآن؛ فإنها ليست خاصة برمضان، بل هي في كل وقت، فليكن لكل واحد منا ورد من القرآن يقرؤه يوميًا.

وينبغي أن تحرص على أعمال البر والخير، وأن تكون بين الخوف والرجاء، تخاف عدم القبول، وترجو من الله القبول، وتتذكر أنّ يوم عيدنا الوقوفُ بين يدي الله -عز وجل-؛ فمنا السعيد ومنا غير ذلك.

مرَّ وهيب بنُ الورد على أقوام يلهون ويلعبون في يوم العيد، فقال لهمعجبًا لكم! إن كان الله قد تقبل صيامكم فما هذا فعل الشاكرين، وإن كان الله لم يتقبله فما هذا فعل الخائفين.

فكيف لو رأى ما يفعله أهل زماننا من اللهو والإعراض، بل مبارزة الله بالمعاصي يوم العيد.
الخطبة الثانية : 
أيها المسلمون: إن الشهورَ واللياليَ والأعوام مقاديرُ للآجال ومواقيتُ للأعمال، تنقضي حثيثًا وتمضي جميعًا، والموت يطوف بالليل والنهار، لا يؤخّر من حضرت ساعته وفرغت أيامه، والأيام خزائن حافظةٌ لأعمالكم، تُدعَون بها يوم القيامة: (يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا) [آل عمران:30]، ينادي ربكم: "يا عبادي: إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفِّيكم إياها، فمن وجد خيرًا فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومنَّ إلا نفسه". رواه مسلم.

لقد رحل شهركم بأعمالكم، وخُتم فيه على أفعالكم وأقوالكم، فمن كان مسيئًا فليبادر بالتوبة والحسنى قبل غلق الباب وطيِّ الكتاب، ومن كان في شهره إلى ربه منيبًا، وفي عمله مصيبًا، فليُحكم البناءَ، ويشكر المنعمَ على النعماء، ولا يكن كالتي نقضت غزلها من بعد قوَّة أنكاثًا، وما أجملَ الطاعة تعقبها الطاعات، وما أبهى الحسنة تُجمع إليها الحسنات، وأكرِم بأعمال البر في ترادف الحلقات، إنها الباقيات الصالحات التي ندب الله إليها ورغَّب فيها، وكونوا لقبول العمل أشدَّ اهتمامًا منكم بالعمل، فالله لا يتقبل إلا من المتقين، وما أقبح فعل السيئة بعد الحسنة، ولئن كانت الحسنات يُذهبن السيئات فإن السيئات قد يحبطن الأعمال الصالحات.

أيها المسلمون: كنتم في شهر البر والخير، تصومون نهارَه، وتقومون ليلَه، وتتقرَّبون إلى ربكم بأنواع القربات طمَعًا في الثواب وخشيةً من العقاب، وقد رحلت تلك الأيام، وكأنها ضربُ خيال، لقد قطعت بنا مرحلةً من حياتنا لن تعود، هذا هو شهركم، وهذه هي نهايته، كم من مستقبلٍ له لم يستكمله، وكم من مؤمِّل أن يعودَ إليه لم يدركه، وهكذا أيام العمر مراحلُ نقطعها يومًا بعد يوم في طريقنا إلى الدار الآخرة.

إن استدامةَ أمر الطاعة، وامتدادَ زمانها، زادُ الصالحين، وتحقيق أمل المحسنين، وليس للطاعة زمنٌ محدود، ولا للعبادة أجل معدود، بل هي حقّ لله على العباد، يعمرون بها الأكوان على مرّ الأزمان، وشهر رمضان ميدانٌ لتنافس الصالحين وتسابق المحسنين، يعملون بأرواحهم إلى الفضائل، ويمنعون عنها الرذائل، ويجب أن تسير النفوس على نهج الهدى والرشاد بعد رمضان، فعبادة ربِّ العالمين ليست مقصورة على رمضان، وليس للعبد منتهى من العبادة دون الموت، وبئس القوم يعبدون الزمان لا يعرفون الله إلا في رمضان.

أيها المسلمون: إن للقبول والربح في هذا الشهر علاماتٍ، وللخسارة والردّ أمارات، وإن من علامة قبول الحسنة فعلَ الحسنة بعدها، ومن علامة السيئة السيئة بعدها، فأتبعوا الحسنات بالحسنات تكن علامةً على قبولها، وأتبعوا السيئاتِ بالحسنات تكن كفارة لها ووقايةً من خطرها: (إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيّئَاتِ ذلِكَ ذِكْرَى لِلذاكِرِينَ) [هود:114]، ويقول -عليه الصلاة والسلام-: "اتق الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنةَ تمحُها، وخالق الناسَ بخلق حسن". رواه الترمذي.
ومن عزم على العود إلى التفريط والتقصير بعد رمضان فالله حيّ لا يفنيه تداولُ الأزمان وتعاقب الأهلة، وهو يرضى عمن أطاعه في أي شهر كان، ويغضب على من عصاه في كلِّ وقت وآن، ومدار السعادة في طول العمر وحسن العمل، ومداومة المسلم على الطاعة من غير قصرٍ على زمان معيّن أو شهر مخصوص أو مكان فاضل، من أعظم البراهين على القبول وحسن الاستقامة.
ألا فلا يُنسِيَنَّكم -عباد الله- ما أنتُم فيه من عيدٍ وسُرور ما يُعانِيه إخوانٌ لكم لم يعرِفوا العيد ولا الفرحةَ ولا السُّرور، فالشهورُ عندهم على حدٍّ سواء بين دوِيِّ القنابل وصُروف الحروب المُدمِّرة، لا تغمِضُ أجفانُهم إلا لُمامًا، لم يخْلُ بيتٌ فيهم من قتيلٍ أو جريحٍ أو شريدٍ، ما انفكَّوا مظلومين حُفاةً جِياعًا ضُعفاء، يفترِشون الأرض، ويلتحِفون الهواء.
 فاللهَ اللهَ أن تُنسِيَكم فرحةُ العيد أحزانَهم وآلامَهم، فلا تحرِموهم عاطفةً قلبيَّةً بالدعاء، ولا عاطفةً ماديَّةً بالدعم والإغاثة والمُواسَاة؛ فإن الله في حاجة العبد ما كان العبدُ في حاجَة أخِيه.


3

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق