( رمضان شهر الجود والاحسان )
أما بعد:
فإن رمضان يمتاز عن غيره من الشهور بأنه الشهر الذي بعث فيه نبي الإسلام، ونزل فيه الأمين بالوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهو شهر الوحي، وشهر القرآن، وشهر الجود والعطاء؛ إذ إن الله تعالى قد جاد على عباده بنزول القرآن، وإرسال خاتم الرسل؛ لإخراج الناس من الظلمات إلى النور، وأيُّ جود أعظم من هذا الجود؟!
ويجود الله تعالى على عباده فيه بالرحمة والمغفرة والعتق من النار، ثم إن أجودَ الناس وأجزلهم عطاءً، وأسخاهم نفساً رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أجود ما يكون في رمضان، فاجتمع الجودان؛ جودُ رمضان، وجودهُ صلى الله عليه وسلم، وكان جوده بجميع أنواع الجود من بذل العلم والمال، وبذل نفسه لله تعالى في إظهار دينه وهداية عباده، وإيصال النفع إليهم بكل طريق من إطعامِ جائعهم، وقضاء حوائجهم، وتحمل أثقالهم، لم يزل على هذه الخصال الحميدة منذ نشأ حتى قالت خديجة في أول بعثه: " والله لا يخزيك الله أبداً، إنك لتصل الرحم، وتقري الضيف، وتحمل الكل، وتكسب المعدوم، وتعين على نوائب الحق ".
كان الجود سجية له صلى الله عليه وسلم جبله الله عليها، وزاد جوده وكرمُه بعد البعثة، وتحملِ الرسالة أضعافاً مضاعفة، فهو أكملُ الناس إيماناً، وأعلمهم وأيقنهم أن ما عند الله خير وأبقى، فكان لا يمسك من المال شيئاً؛ قال أنس بن مالك رضي الله عنه: كان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أحسنَ الناس، وكان أجود الناس، وكان أشجعَ الناس؛ متفق عليه.
وفي صحيح مسلم عنه رضي الله عنه قال: ما سئل رسولُ الله صلى الله عليه وسلم على الإسلام شيئاً إلا أعطاه، فجاءَه رجل فأعطاه غنماً بين جبلين فرجع إلى قومه، فقال: يا قوم، أسلموا؛ فإن محمداً صلى الله عليه وسلم يعطي عطاءً لا يخشى الفاقة.
قال أنس: " إن كان الرجلُ ليسلم ما يريدُ إلا الدنيا فما يمسي حتى يكون الإسلامُ أحبَ إليه من الدنيا وما عليها ".
وقال صفوان بن أمية رضي الله عنه: " والله لقد أعطاني رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أعطاني وإنه لأبغض الناس إليّ فما برح يعطيني حتى إنه لأحبُ الناس إليَّ " قال الزهري رحمه الله تعالى: " أعطاه يوم حنين مائة من النعم ثم مائة ثم مائة "، وقال الواقدي: " أعطاه يومئذ وادياً مملوءاً إبلاً ونَعَماً حتى قال صفوان: " أشهد ما طابت بهذا إلا نفسُ نبي".
وأخبر عنه جابُر بن عبدالله رضي الله عنهما فقال: ما سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً قط فقال: لا.
وكان صلى الله عليه وسلم يُقدِّم الناس على نفسه؛ فقد روى البخاري من حديث سهل رضي الله عنه أن امرأة جاءت النبي صلى الله عليه وسلم ببردةٍ منسوجة فيها حاشيتها " أتدرون ما البردة؟ " قالوا: الشملة، قال: "نعم "، قالت: نسجتها بيدي فجئت لأكسوكها، فأخذها النبي صلى الله عليه وسلم محتاجاً إليها فخرج إلينا وإنها إزاره، فحسَّنَها فلان، فقال: اكسنيها ما أحسنها، قال القوم: ما أحسنت؛ لبسها النبي صلى الله عليه وسلم محتاجاً إليها ثم سألته وعلمت أنه لا يرد قال: إني والله ما سألته لألبسها، إنما سألتها لتكون كفني، قال سهل: فكانت كفنه.
قال ابن رجب رحمه الله تعالى: " وكان جوده صلى الله عليه وسلم كله لله عز وجل، وفي ابتغاء مرضاته؛ فإنه كان يبذل المال إما لفقير أو محتاج، أو ينفقه في سبيل الله، أو يتألفُ به على الإسلام من يقوى الإسلام بإسلامه.
وكان يؤثر على نفسه وأهله وأولاده، فيعطي عطاءً يعجز عنه الملوك مثلُ كسرى وقيصر، ويعيش في نفسه عيش الفقراء، فيأتي عليه الشهرُ والشهران لايُوقَدُ في بيته نار، وربما ربط على بطنه الحجر من الجوع.
وكان قد أتاه صلى الله عليه وسلم سبيٌ مرة فشكت إليه فاطمةُ ما تلقى من خدمة البيت، وطلبت منه خادماً يكفيها مؤنة بيتها، فأمرها أن تستعين بالتسبيح والتكبير والتحميد عند نومها وقال: " لا أعطيك وأدع أهل الصفة تطوى بطونهم من الجوع ".
وكان جودُه صلى الله عليه وسلم يتضاعفُ في شهر رمضان على غيره من الشهور ؛ فإن الله جبله على ما يحبه من الأخلاق الكريمة؛ وكان على ذلك من قبل البعثة... كان صلى الله عليه وسلم يجاور في حراء من كل سنةٍ شهراً يطعم من جاءه من المساكين، حتى إذا كانت سنة بعثه للناس نبياً وهادياً؛ خرج إلى حراء كما كان يخرج كل عام حتى إذا كانت الليلة التي أكرمه الله تعالى برسالته، ورحم العباد بها، جاءه جبريلُ من الله عز وجل.
ثم كان بعد الرسالة جودُه في رمضان أضعاف ما كان قبل ذلك حيث كان جبريل يدارسه القرآن.
فجبريل أفضل الملائكة، والقرآن أشرف الكتب، ومحمد صلى الله عليه وسلم خير البشر، وخاتم الرسل، فاجتمع الشرف كله في هذا الاجتماع، وتلك المدارسة.
ولقد كان هذا القرآن لرسول الله صلى الله عليه وسلم خلقاً، يرضى لرضاه، ويسخط لسخطه، ويسارع إلى ما حث عليه، ويمتنع مما زجر عنه؛ فلهذا كان يتضاعف جوده في هذا الشهر لقرب عهده بمخالطة جبريل عليه السلام، وكثرة مدارسته له هذا الكتاب الكريم الذي يحث على المكارم والجود ".
أيها الإخوة: ولنا في رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة، وهو لنا قدوة، وقد كان يجود في رمضان.
مع ما في الجود في هذا الشهر من فوائد لا تحصى ومزايا لا تعد، حيث شرف الزمان، ومضاعفة أجر العمل، والصدقةُ فيه تعين الفقراء الصائمين القائمين الذاكرين على الطاعة، فيستوجبُ المعينُ لهم مثلَ أجرهم، " ومن فطر صائماً فله مثلُ أجره من غير أن ينقص من أجر الصائم شيء "، وتفطير الصائمين جودٌ وكرم.
وإذا كان الله يجود على عباده في رمضان بالرحمة والمغفرة والعتق من النار لاسيما في ليلة القدر، فأولى أن يستحق ذلك أهل الجود الذين يرحمون عباد الله وقد قال صلى الله عليه وسلم " إنما يرحم الله من عباده الرحماء " متفق عليه فمن جاد على عباد الله تعالى جاد الله عليه بالفضل والعطاء.
ينضم إلى هذا الفضل العظيم أن الجمع بين الصيام والصدقة من موجبات الجنة، قال النبي عليه الصلاة والسلام: " إن في الجنة غرفاً يُرى ظهورُها من بطونها وبطونُها من ظهورها، قالوا: لمن هي يا رسول الله؟ قال: لمن طيَّب الكلام، وأطعم الطعام، وأدام الصيام، وصلى بالليل والناس نيام " أخرجه أحمد والترمذي. وهذه الخصال كلها تكون في رمضان، فيجتمع فيه للمؤمن الصيامُ والقيامُ والصدقةُ وطيبُ الكلام.
بل إن من معاني الصيامِ العظيمةِ: إحساس الأغنياء بحاجة إخوانهم الفقراء فيسدوا حاجتهم، ويجودوا عليهم.
سئل أحد السلف: لم شرع الصيام؟ قال: " ليذوق الغني طعم الجوع فلا ينسى الجائع ".
لذا كان كثير من السلف يواسون من إفطارهم، أو يؤثرون به ويجوعون.
كان ابن عمر رضي الله عنهما يصوم ولا يفطر إلا مع المساكين فإذا منعهم أهلهُ عنه لم يتعش تلك الليلة.
وكان إذا جاءَه سائلٌ وهو على طعامه أخذ نصيبه من الطعام وقام فأعطاه السائل فيرجع وقد أكلَ أهله ما بقي في الجفنة فيُصبحَ صائماً ولم يأكل شيئاً.
واشتهى أحد الصالحين من السلف طعاماً وكان صائماً فوضع بين يديه عند فطوره فسمع سائلاً يقول: من يقرض المليّ الوفيّ الغني، فقال: عبدُه المعدمُ من الحسنات فقام فأخذ الصحفة فخرج بها إليه وبات طاوياً.
وجاء سائلٌ إلى الإمام أحمد فدفع إليه رغيفين كان يُعدهما لفطره ثم طوى وأصبح صائماً.
فلله درُّ تلك النفوس ما أسخاها، وماأشد إيثارها، وما أعظم رغبتها فيما عند مولاها.
قال الشافعي رحمه الله تعالى: " أُحِبُ للرجلِ الزيادةَ بالجود في شهر رمضان اقتداءً برسول الله صلى الله عليه وسلم، ولحاجة الناس فيه إلى مصالحهم، ولتشاغل كثيرٍ منهم بالصوم والصلاة عن مكاسبهم ".
فأين الأغنياء والموسرون؟! شهر الجود دونكم فجودوا جاد الله عليكم ( وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ ) [المزمل:20] ( إِنْ تُقْرِضُوا اللهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ ) [التغابن:17]. بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم.
الخطبة الثانية :
أيها المسلمون: حين نرى المرء يقضي وقته ويبذلُ جهده ليجمع المال، ثم ترى صاحب المال يبذله لفقير محتاج، تعلم حينها أنه ما بذل المال الغالي إلا في أمر أحبّ وأرغب، وهو رضا الله سبحانه، وقد صدق الرسول -صلى الله عليه وسلم- إذ قال: "والصدقةُ بُرهانٌ"، أي: برهانُ صدقِ الإيمانِ.
ذكرت كتب التراجم أن علي بن الحسين كان من أغنياء الناس، ولكن الناس لم يكونوا يرون منه إنفاقًا وصدقاتٍ، وكان بعضهم ربما عتب عليه ولمزه بالبخل، ولكنه كان له مع البذل شأن آخر، لقد كان إذا ما نامت العيون وأظلم الليل حمل الأطعمة والمؤن على ظهره، ومضى متنقلاً بين بيوت فقراء المدينة، فيعطي كل محتاج ولا يعلم به أحد من الناس، وحتى من يعطيهم من الفقراء لم يعرفوه يومًا من الأيام، ومضى على هذا الشأن حتى توفاه الله.
وفي أثناء غسله رأى مغسلوه أثر سواد على ظهره، وظلوا يتساءلون عن أثر هذا الحمل، حتى فقده بوفاته مائة عائلة من الفقراء ممن يعولهم ومن يحمل لهم الطعام في الليل، فعرف الجميع أن الحامل والمنفق لم يكن إلا علي بن الحسين، وأن عليًا كان ذا صدقة يبذلها في السر، وأن الأثر في ظهره هو أثر الحمل المتكرر.
عباد الله: المال مال الله أعطاه عبده ليرى كيف يعمل فيه، والذي أغنى الغني وأفقر الفقير قادر في طرفة عين أن يقلب الحال فيعود الغني فقيرًا.
المال فتنة بين يدي صاحبه، يُسأل عنه: من أين جمعه؟! وأين وضعه؟! وبين هذين السؤالين؛ فكم من أقوام من أهل المال سيتساقطون! إذا لم يعدوا لذلك السؤال جوابًا صوابًا، فرسبوا في امتحان: مِن أين اكتسبه؟ وفيم أنفقه؟
أيها المبارك، يا صاحب المال: نعم؛ لقد تعبْتَ في جَمْعِه، وأمضيت عمرك لأجل نيله، فما الذي يدعوك لأن تبذله لامرئ لا يعنيك؟!
إن الفقراء نعمة من الله للأغنياء، وفرصة لهم ليتقربوا لرب الأرض والسماء بإعانتهم.
تأمل في شأن المال الذي في يدك، والذي تقول إنه لك: مَن الذي أقدرك على التكسب به والعمل؟ ومن الذي وفقك للربح في وقت ربما خسر غيرك؟ من الذي جعلك غنيًا وجعل غيرك فقيرًا؟ أليس هو الله الذي أحوج الفقير إليك، ولم يحوجك إلى أحد من خلقه لتسأله؟ فأين الإحسان؟.
عباد الله: كثيرٌ هم من يحل المال بأيديهم، لكن منهم من بخل: (وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ) [محمد:38]، والله غني عنه وعن بذله، أوعده الشيطان الفقر فقبض يده فمحقت بركة ماله، وكان ذلك سبب خساره.
ومنهم أقوام بذلوا وقدموا، وفي أوجه الخير تصدقوا، جعلوا المال مركبًا موصلاً للجنان، وطريقًا ينالون به رضا الرحمن، كلما سمعوا بمجال خير وبذل ساهموا، وبمحتاج سارعوا، وبباب إنفاق تقدموا، وما ضرهم بل لقد زادهم؛ لأنهم يتعاملون مع الكريم الشكور الذي يعطي على القليل الكثير؛ لأنهم يتعاملون مع الذي قال: (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً) [البقرة:245].
واللهِ ما ضرهم! وما نقصت أموالهم؛ لأن الله رغّبهم فقال: (مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) [البقرة:261].
فطوبى لنفس طابت ببذل المال وهو للنفس محبوب، فأرخصته في سبيل نيل رضا علام الغيوب، والاستظلال بظل العرش في يوم الكروب، والمرء في ظل صدقته يوم القيامة.
وكان من هؤلاء رجال مضوا وثبتت أجورهم وبقيت مآثرهم، حينما أنفقوا في سبيل الله وتصدقوا.
أبو بكر يأتي بماله صدقة، فيقول الرسول له: "ما أبقيت لأهلك؟!"، فيقول: أبقيت لهم الله ورسوله.
عثمان ما زال ينفق وينفق في حفر آبار، وإطعام فقراء، وحين احتاج الرسول -صلى الله عليه وسلم- لتجهيز جيش العسرة قال للصحابة حاثًّا: "مَن جهَّز جيش العسرة فله الجنة"، فما زال عثمان يعطيه من المال ومن الرواحل حتى قال -صلى الله عليه وسلم-: "ما ضر ابن عفان ما عمل بعد اليوم".
وكان منهم أبو طلحة الذي خرج من بستانه وتصدق به وهو أحب أمواله إليه حينما سمع آية واحدةً في القرآن تقول: (لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ) [آل عمران:92].
وكان منهم عائشة التي جاءها من معاوية مائة ألف درهم، فما قامت حتى أنفقتها كلها للفقراء ونسيت نفسها، وكانت صائمة فلم يتبق منها الاّ اثنا عشر درهماً ذكرتها جاريتها أن تبقيها لفطرها.
ونماذج السخاء ليس لها انقضاء، وصور المنفقين في الأمة في القديم وفي الحديث كثيرة، وما زالت أوجه الإحسان تشهد تسابقًا من أهل الأموال، والموفق من وفقه الله.
ولكن؛ ماذا عني وعنك؟ أجل؛ نحن نعلم فضل البذل، نحن نملك المال، وأبواب الإحسان مفتوحة؛ فماذا قدمنا من الصدقات لنستظل بها يوم القيامة؟
إن في المسلمين جوعى، وفيهم من لا يجد مسكنًا يؤويه، وفيهم من لا يجد قيمة طعام أبنائه، ولا علاج مريضه، وهؤلاء بين أيدينا.
وفي المسلمين بلاد فتك الظلمة بأهلها، وهم يحتاجون للقمة غذاء، أو لسلاح يقاتلون به الأعداء، أو لقطرة دواء، ربما مات الميت منهم لأنه لم يجد غطاءً يحميه من البرد، أو لم يجد قطرة دواء؛ فأين نحن منهم؟
بل أين نحن من أنفسنا؟ فنحن أحوج لأن ننفع أنفسنا بالإنفاق أشد من حاجة الفقراء، فحاجتهم دنيوية وحاجتنا أخروية، فبالإنفاق يقي المرء نفسه من البلايا والكروب، وبالإنفاق تطفأ الخطايا وتُكَفَّر الذنوب، وبالإنفاق تفتح أبواب الرزق، ويبارك الله في المال، ويقي صاحبه من العذاب.
أيها المبارك: وإذا وُفِّقْتَ للصدقة فلْتَكُنْ صدقتُكَ مِن كسبٍ طيِّبٍ؛ فالله لا يقبل إلا طيبًا.
وأنت راءٍ مِن الناس من ينفق فيبطل أجره بالمنّ على من أعطاه، والأذى له بتعييره بالنفقة، أو بتذكيره بها كلما جاءت مناسبة.
واعلم أن المنة لله وليست لك، وقد قال الفضيل عن سؤال المحتاجين: "نتصدق عليهم بالزاد فيحملون أزوادنا إلى الآخرة بغير أجرة، حتى يضعوها في الميزان بين يدي الله. فمَن أحبُّ إلينا منهم؟".
وأخلِص -أيها المبارك- نيتك، فكم من أقوام بذلوا لكن نياتهم لم تكن لله، فلا للمال أمسكوا ولا بما بذلوا انتفعوا.
واعلم أن أفضل الصدقات ما أخرجته حال صحتك وزمن حياتك، فهي أكمل مما يخرج حال المرض ومفارقة الدنيا، أو مما يكون بعد الموت، وفي الحديث أنه -صلى الله عليه وسلم- سئل: أي الصدقة أفضل، فقال: "أن تصَدَّقَ وأنت صحيح شحيح تخشى الفقر وتأمل الغنى، ولا تُمْهِلُ حتى إذا بلغتِ الحلقومَ، قلتَ: لفلانٍ كذا، ولفلانٍ كذا، وقد كان لفلانٍ". متفق عليه.
في الحديث : ((ما منكم من أحدٍ إلاّ سيكلمه الله ليس بينه وبينه ترجمان، فينظر أيمن منه فلا يرى إلا ما قدم، فينظر أشأم منه فلا يرى إلا ما قدم، فينظر بين يديه فلا يرى إلا النار تلقاء وجهه، فاتقوا النار ولو بشق تمرة)) أخرجاه في الصحيحين.
وفي حديث عقبة بن عامر قال: سمعت رسول الله
يقول: ((كل امرئ في ظلّ صدقته حتى يقضى بين الناس)). وقد ذكر النبي
أن من السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: ((رجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه)) أخرجاه في الصحيحين.


وفي الحديث (( إن مما يلحق المؤمن من عمله وحسناته بعد موته علمًا علَّمَه ونشره، وولدًا صالحًا تركه، أو مصحفًا ورّثه، أو مسجدًا بناه، أو بيتًا لابن السبيل بناه، أو نهرًا أجراه، أو صدقة أخرجها من ماله في صحته وحياته تلحقه بعد موته))،
فرحم الله نفسًا تهيأَتْ لمستقبلها الأخروي، وقدمت لنفسها قبل حلول رمسها. أستغفر الله لي ولكم.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق