الحمد لله ربّ العالمين حمدًا كثيرًا طيّبًا مباركًا فيه كما يحب ربّنا ويرضَى.
الله أكبر كبيرًا، والحمد لله كثيرًا، وسبحان الله بكرة وأصيلاً، لا إله إلا الله وحده، صدق وعده، ونصر عبده، وأعزَّ جنده، وهزم الأحزاب وحده، لا إله إلا الله، ولا نعبد إلا إياه، مخلصين له الدين ولو كره الكافرون..
الحمدُ لله العظيم رب العرش الكريم، هدانا للإيمان، ووفقنا لإدراك رمضان في العام، وسهَّلَ لنا قيام لياليه مع الأنام، فله الحمدُ أوَّلاً وأخيرًا، ظاهرًا وباطنًا.. اللهم لكَ الحمدُ بكلِّ نعمةٍ أنعمت بها علينا، لك الحمدُ بالأهل والمال والمعافاة، بسطتَ رِزقنا، وكبَتَّ عدُوَّنا، وأظهرتَ أمننا، وستَرْتَ عَيْبَنا، وجمعتَ فرقتَنَا، ومن كلِّ ما سألناكَ ربَّنا أعطيتنا، فلكَ الحمدُ حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه كما تحب وترضى.
معاشر المؤمنين: أوصيكم ونفسي بتقوى الله -جلَّ وعلا-، فهي وصيتُهُ سبحانه للأوَّلين والآخرين: (وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنْ اتَّقُوا اللَّهَ) [النساء: 131].
تقوى الله -جل جلاله- خيرُ زادٍ يُدَّخَرْ، قال تعالى: (وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى) [البقرة:197]،
هي أفضل لباس يُزَيِّنُ ما بطن وظهر، قال تعالى: (وَلِبَاسُ التَّقْوَىَ ذَلِكَ خَيْر) [الأعراف:26]،
هي سببُ النجاة من البلاء والضُّر، قال تعالى: (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ)[الطلاق2-3]،
هي سببُ الخيرات والبركات، قال تعالى: (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْض) [الأعراف:96].
فاتقوا الله -عبادَ الله- واجعلوا التقوى شعارَكم، في الليل والنهار، في السر والعلانية، في السَّفر والحَضر، في الشباب والمشيب، في أنفسكم وأهليكم والناس أجمعين.
أما بعد:
أيها الإخوةُ المسلمون: اعلموا -رحمكم الله- أنَّ الدين عند الله الإسلام، فهو الدِّينُ الذي لا يقبلُ اللهُ دينًا سواه من الإنسِ والجِن سواء، هو النَّاسِخُ لكلِّ دينٍ قبله، وهو الحاكمُ على كلِّ شريعةٍ سواه، من ابتغى العزَّةَ في غير دينِ اللهِ أذَلَّهُ الله -عز وجل-، ومن ابتغى الهدايةَ في غيرِ منهجِهِ أضَلَّهُ وأخزاه، كما قال اللهُ تعالى: (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنْ الْخَاسِرِين) [آل عمران:85] .
ثمَّ إنَّهُ لا فرقَ في هذا الدين بين عربي وأعجمي، ولا بين أبيض وأسود، ولا طويل وقصير، ولا غنيّ وفقير، ولا وضيعٍ وَوَزير إلا بالتقوى، دِينٌ قيّمٌ قائمٌ على الحقائقِ والبراهين، لا على النَّسَبِ والعناوينْ، الناسُ فيهِ كلُّهم أمام التكليف والحساب سواء، لا يتميزون بأجناسٍ ولا ألوان، ولا مراتبَ ولا سلطان، إلا من أتى الله بقلب سليم وبرهن عليه بالعمل الصالح، قال -صلى الله عليه وسلم- في خطبة الوداع: "يا أيها الناس: إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد، ألا لا فضل لعربي على عجمي ولا لعجمي على عربي ولا لأحمر على أسود ولا لأسود على أحمر إلا بالتقوى، إن أكرمكم عند الله أتقاكم، ألا هل بلغت". [صحيح الترغيب 2963].
قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "يا أيها الناس: إن الله قد أذهب عنكم عُبَيَّةَ الجاهلية وتعاظُمَهَا بآبائها، فالناس رجلان: رجل بر تقي كريم على الله، وفاجر شقي هين على الله، والناس بنو آدم وخلق الله آدم من تراب". [صحيح الجامع: 7867].
فالله أكبر كبيرًا، والحمد لله كثيرًا، وسبحان الله بكرة وأصيلاً.
أيها الإخوة: اتقوا الله تعالى واعرفوا فضله عليكم بعيد الفطر السعيد، وهو أول يومٍ من أيام الحج إلى بيته الحرام. وهذا العيد عظيم الشأن عند الله، ومما يدل على عظم شأنه أن الله قرنه بشعيرة عظيمة من شعائر الإسلام العامة التي لها جلالُها وروحانيتُها، وهي شهر رمضان؛ فجاء عيدُ الفطر مِسك ختامِه، وكلمة الشكر على تمامه.
وهذا الربط الإلهي بين عيد الفطر وبين شعيرة الصيام دليل على أنه عيد ديني بكل ما شُرع فيه من سُنن، بل حتى ما ندب إليه الدينُ فيه من أمور ظاهرُها أنها دنيوية كالتجمل، والتحلي، والتطيب، والتوسعة على العيال، وإلطاف الضيوف، والمرح، واللهو.
عيدٌ امتلأت القلوب به فرحًا وسرورًا، وازدانت به الأرض بهجة ونورًا، يومٌ يخرج المسلمون فيه بالأمصار إلى المصليات والمساجد مكبرين ومهللين ولربهم حامدين معظمين، وبنعمته مغتبطين، فلله الحمد رب العالمين.
الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله، الله أكبر الله أكبر ولله الحمد.
أيها الأحبة: عيدكم مبارك ،افرحوا بعيدكم أفراحًا كثيرة؛ فرحة بفضل الله ورحمته، وكريم إنعامه، ووافر عطائه، وفرحة بالهداية يوم ضلت فئام من البشر عن صراط الله المستقيم، ففرحنا أن هدانا يوم ضل غيرنا: (وَلِتُكْمِلُوا الْعِدةَ وَلِتُكَبّرُوا اللّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلّكُمْ تَشْكُرُونَ) [البقرة: 185].
فأيُّ نعمةٍ أعظم، وأي منٍّ أمنُّ وأفضل مِنْ أن اللهَ هدانا للإسلام، فلم يجعلنا مشركين نجثو عند أصنامٍ أو حيوانٍ، ولا يهودَ نغدو إلى بيعة، ولا نصارى نروح إلى كنيسة، ولا ملحدين لا نلوي على شيء، وإنما اجتبانا على ملة أبينا إبراهيم ودين نبينا محمد -صلى الله وسلم عليهم أجمعين-: (هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ) [الحج:78].
وللعيد فرحة ببلوغ شهر رمضان يوم تصرّمت أعمارٌ عن بلوغه.
وللعيد فرحةٌ بتوفيق الله وعونه على ما يسر من طاعته، فقد كانت تلك الأيام الغرُّ أيامًا طويلة شديدةَ الحر، ومع ذلك يمضيها المؤمنون بالصيام متحملين ظمأَ الهواجر وألم الجوع ، ويقضون لياليَها الزُّهْرَ مستنزلين الرحمات والنفحات، قد اصطفت فيها جموعهم تُقَطْعُ الليل تسبيحًا وقرآنًا، فكم تلجلجت الدعوات في الحناجر، وترقرقت الدموع في المحاجر، وشَفّت النفوسُ ورقت حتى كأنما يعرج بها إلى السماء تعيش مع الملائكة، وكأنما تنظر إلى الجنة والنار رأي عين، في نعمة ونعيم لا يعرف مذاقها إلا من ذاقها. فَحُقَّ لتلك النفوسِ أن تفرحَ بعدُ بنعمة الله بهذا الفيض الإيماني الغامر.
وللعيد فرحة بإكمالِ العِدةِ واستيفاءِ الشهرِ، وبلوغِ يوم الفطر بعد إتمام شهر الصوم، فلله الحمد على ما وهب وأعطى، وامتن وأكرم: (قُلْ بِفَضْلِ اللّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِما يَجْمَعُونَ) [يونس: 58].
الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله، الله أكبر الله أكبر ولله الحمد.
فهذا العيد -معاشر الأحبة- موسم الفضل والرحمة، وبه يكون الفرح ويُظهر السرور والبهجة،
وشَرْعُ النبي -صلى الله عليه وسلم- وتقريرُه إظهارُ الفرحِ وإعلانُ السرورِ في الأعياد، فعَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَدِمَ رَسُولُ اللّهِ -صَلى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- الْمَدِينَةَ وَلَهُمْ يَوْمَانِ يَلْعَبُونَ فِيهِمَا فَقَالَ: "مَا هَذَانِ الْيَوْمَانِ؟!"، قَالُوا: كُنّا نَلْعَبُ فِيهِمَا فِي الْجَاهِلِيةِ. فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ -صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ-: "إِن اللّهَ قَدْ أَبْدَلَكُمْ بِهِمَا خَيْرًا مِنْهُمَا يَوْمَ الْأَضْحَى وَيَوْمَ الْفِطْرِ". رواه أبو داود وغيره وصححه الألباني.
قال أهل العلم: وجدَ القومَ يلعبون على حال من الترفيه البريء، فما استنكر لعبهم، ولكن استنكر توقيت اللعب باليومين، فقال: "قَدْ أَبْدَلَكُمْ بِهِمَا خَيْرًا مِنْهُمَا يَوْمَ الْأَضْحَى وَيَوْمَ الْفِطْرِ".
وفيه دليل على أن إظهار السرور في العيدين مندوب، وأن ذلك من الشريعة التي شرعها الله لعباده؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- إنما خالفهم في تعيين الوقتين. وقد فُعِلَ أنواعٌ من مشاهد السرور والبهجة بالعيد بين يدي النبي -صلى الله عليه وسلم- فأقرها واحتفى بها. وقال في موقف: "إِن لِكُلّ قَوْمٍ عِيدًا وَهَذَا عِيدُنَا". رواه البخاري ومسلم. وقال في الآخر: "لَتَعْلَمُ يَهُودُ أَن فِي دِينِنَا فُسْحَةً، إِنّي أُرْسِلْتُ بِحَنِيفِيةٍ سَمْحَةٍ". رواه أحمد بسند قوي.
الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله، الله أكبر الله أكبر ولله الحمد..
إننا بحاجة إلى أن نجعل من هذا العيد فرصة لدفق الأمل في قلوبٍ أحبطها اليأس، وأحاط بها القنوط، وتبدّت فيها مظاهر اليأس في صور شتى،.
فيا أمة الإسلام: أبشروا وأمّلوا ما يسركم، فعُمر الإسلام أطول من أعمارنا، وآفاق الإسلام أوسع من أوطاننا، وليست المصائب ضربة لازب، لا تحول ولا تزول، فقد حصر المسلمون في الخندق، وبعد سُنيّاتٍ فتحوا مكة، وسقطت بغداد، ثم بعد نحو ثلاثين سنة استعاد صلاح الدين بيت المقدس بعد أن استولى عليه النصارى أكثر من تسعين سنة، وبعد قرنين فُتِحت القسطنطينية، والله -عز وجل- لا يعجل لعجلتنا، ولا تتحوّل سننه لأهوائنا، فسنن الله لا تحابي أحدًا.
اللهُ أكبرُ قُـولُوْهَا بِـلَا وَجَلٍٍ *** وزينوا القلبَ من مغزى معانيها
بها ستعلو على أفق الزمان لنا *** رايـات عز نسينا كيف نفديها
الله أكـبر ما أحلى النداءُ بها *** كأنه الـري في الأرواحِ يحيـها
الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله، الله أكبر الله أكبر ولله الحمد.
أيها الأحبة: ها أنتم أولاء انتهيتم من موسم عظيم للطاعة، كم دعوتم فيه وكم أمنتم على دعاء وألححتم بآخر، وكم استغفرتم وكم بين يدي الله تملقتم تطلبون العفو والغفران عن كل ما سلف وكان.
أقول لكم: أبشروا بما يسركم فإن الله سبحانه قريب مجيب يجيب دعوة الداعي إذا دعاه، بل إن كرمه فوق ذلك فيبادر عباده الموحدين بالمغفرة.
أيها الإخوة، أيتها الأخوات، أيها الأبناء، أيتها البنات: أدعوكم في هذا اليوم العظيم ونحن على إثر عبادة عظيمة من هذا المنبر الحق ، أدعوكم -رجالاً ونساءً صغارًا وكبارًا- أن ترفعوا شعارًا في هذا العيد تبادرون به كلَّ ذي رحم، وكل جار وصديق ، أعلنوها: سامحتك لوجه الله تعالى القائل: (فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ) [الشورى:40]، سامحتك امتثالاً لأمر ربنا، سامحتك اقتداءً بقدوتنا، كفى قطيعة كفى تفرقًا وتشرذمًا، ألا تحبون أن يغفر الله لكم!!
الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله، الله أكبر الله أكبر ولله الحمد.
نعم معاشر الإخوة والأخوات: في العيد يُهدي الناسُ بعضُهم إلى بعض هدايا القلوب المُخلصةِ المُحِبة، وكأنما العيد روح الأسرة الواحدة في الأمة كلها.
اذا اشتكي مسلم في الصين أرقني, وإن بكى مسلم في الهند أبكاني،
ومصر ريحانتي, والشام نرجستي, وفي الجزيرة تاريخي وعنواني،
وحيثما ذكر اسم الله في بلد عددت أرجاءه من صلب أوطاني...
الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله، الله أكبر الله أكبر ولله الحمد.
الخطبة الثانية :
اتق الله تعالى أختي المسلمة، واحفظي حدود الله وحقوق العباد، واعلمي أن أفضل زينة للمرأة التقوى والعفاف والصلاح، لا يغرنك ما يفعله بعض النساء من السفور والتبرج ورفع الصوت والبصر. حافظي على الصلوات، وإياك ومزاحمة الرجال في الأسواق والشوارع والحافلات، انتبهي إلى جلبابك فإنه رأس مال الحياء، تأكدي من أنه ساتر لجميع البدن، وأنه ليس لباس زينة يجلب الأنظار، وأنه واسع فضفاض غير ضيق ولا شفاف، وأنه غير مبخر بالعطور والروائح.
حافظي على أحكام الطهارة والوضوء والغسل والعبادات، وتعلميها واسألي عنها، ولا يمنعنك الحياء أن تسألي عنها، فإن خير النساء من لم يمنعهن الحياء من تعلم أمور دينهن.
بادري إلى قضاء أيام الصيام، ولا تتركيها حتى يأتي عليك رمضان، ونسأل الله تعالى أن يفتح على كل أخت مسلمة أبواب السعادة والراحة والهناء في الدنيا والآخرة، وأن يرزقهن الذرية الصالحة، والأزواج المؤمنين، والصبر والإيمان واليقين. إنه نعم المولى ونعم المجيب.
وأتبعوا صيام رمضان بست من شوال؛ فقد حث على ذلك نبيكم -صلى الله عليه وسلم- وقال: "من صام رمضان وأتبعه بست من شوال فكأنما صام الدهر كله".
ومن جاء مع طريق يشرع له أن يعود مع طريق آخر كما هي سنة نبيكم -صلى الله عليه وسلم-.
اللهم إن هؤلاء عبيدك أتوك راغبين بعفوك، اللهم لا تفض هذا الجمع إلا بمغفرة لجميع الذنوب، وحقق لكل واحد منا ما تمنى من خيري الدنيا والآخرة من غير إثم أو قطيعة رحم.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق