( المداومة على الاعمال الصالحة )
الخطبة الأولى :
أَمَّا بَعْدُ:
روى الإمام مسلم من طريق النُّعْمَانِ بْنِ سَالِمٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ أَوْسٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَنْبَسَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ، فِي مَرَضِهِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ بِحَدِيثٍ يَتَسَارُّ إِلَيْهِ، قَالَ: سَمِعْتُ أُمَّ حَبِيبَةَ -رضي الله عنها- تَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: " مَنْ صَلَّى اثْنَتَيْ عَشْرَةَ رَكْعَةً فِي يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، بُنِيَ لَهُ بِهِنَّ بَيْتٌ فِي الْجَنَّةِ"
قَالَتْ أُمُّ حَبِيبَةَ -رضي الله عنها-: فَمَا تَرَكْتُهُنَّ مُنْذُ سَمِعْتُهُنَّ مِنْ رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-
وَقَالَ عَنْبَسَةُ: فَمَا تَرَكْتُهُنَّ مُنْذُ سَمِعْتُهُنَّ مِنْ أُمِّ حَبِيبَةَ،
وَقَالَ عَمْرُو بْنُ أَوْسٍ: مَا تَرَكْتُهُنَّ مُنْذُ سَمِعْتُهُنَّ مِنْ عَنْبَسَةَ،
وَقَالَ النُّعْمَانُ بْنُ سَالِمٍ: مَا تَرَكْتُهُنَّ مُنْذُ سَمِعْتُهُنَّ مِنْ عَمْرِو بْنِ أَوْسٍ.
تحرص أم حبيبة رملة بنت أبي سفيان -رضي الله عنها- على هذا العمل الصالح الذي تعلمته من النبي -صلى الله عليه وسلم-، وداوَمت عليه؛ لأنها تريد أن يبنى لها بيت في جنة الخلد.
ولا يَقل عنها أخوها عنبسة بن أبي سفيان -رضي الله عنه-؛ فقد كان من حرصه أن ثبت على هذا العمل الصالح، ودوام عليه لأنه يريد أن يجد لنفسه بيتًا في الجنة.
وما كان عمرو بن أوسٍ عنهما ببعيد، فقد داوم عليها راغبًا أن يبنى له بيت في الجنة، وكذلك النعمان بن سالم حرص أن لا يفوته ذلك الأجر العظيم، والخير الكبير.
بهذا الحرص، وهذا الثبات، وهذه المداومة على الطاعة، وهذا التطلع للجنة استحقوا أن ينالوا الخيرية، فيقول عنهم النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: "خَيْرُ النَّاسِ قَرْنِي، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ" [متفق عليه عن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنها-].
فهلَّا اتخذناهم أسوة، وجعلناهم قدوة لنا، فنتأسى بهم في هذا الحرص، وهذه الرغبة في الدرجات العالية، والمقامات الرفيعة؟
وهلَّا كان عبد الله بن عمر -رضي الله عنه- أسوةً لنا؟
فقد جاء الصحيحين واللفظ لمسلم من حديث ابن عمر -رضي الله عنها- أنَّه رأى رؤيا في منامه قال: "فَقَصَصْتُهَا عَلَى حَفْصَةَ -رضي الله عنها، فَقَصَّتْهَا حَفْصَةُ -رضي الله عنها- عَلَى رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-، فَقَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم "نِعْمَ الرَّجُلُ عَبْدُ اللهِ، لَوْ كَانَ يُصَلِّي مِنَ اللَّيْلِ" قَالَ سَالِمٌ بن عبد الله بن عمر -رضي الله عنه-: فَكَانَ عَبْدُ اللهِ، بَعْدَ ذَلِكَ، لَا يَنَامُ مِنَ اللَّيْلِ إِلَّا قَلِيلًا".
كان رضي الله عنها يسهر ليله في الصلاة، يريد أن يحقق الخيرية تلك وصفه بها النبي -صلى الله عليه وسلم-، فيكون نعم الرجل، لذلك كان -رضي الله عنها- يقضي أكثر الليل من الصلاة في الليل ودوام عليه رضي الله عنها.
وهذا علي بن أبي طالب -رضي الله عنها- لا يقل حرصًا على الأجر والفضل ممن سبق ذكرهم،
ففي صحيح البخاري عَنِ عَلِيٍّ بن أبي طالب -رضي الله عنها-: أَنَّ فَاطِمَةَ -رضي الله عنها- أَتَتِ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- تَشْكُو إِلَيْهِ مَا تَلْقَى فِي يَدِهَا مِنَ الرَّحَى، وَبَلَغَهَا أَنَّهُ جَاءَهُ رَقِيقٌ، فَلَمْ تُصَادِفْهُ، فَذَكَرَتْ ذَلِكَ لِعَائِشَةَ -رضي الله عنها- فَلَمَّا جَاءَ أَخْبَرَتْهُ عَائِشَةُ -رضي الله عنها- قَالَ: فَجَاءَنَا وَقَدْ أَخَذْنَا مَضَاجِعَنَا، فَذَهَبْنَا نَقُومُ، فَقَالَ: "عَلَى مَكَانِكُمَا" فَجَاءَ فَقَعَدَ بَيْنِي وَبَيْنَهَا، حَتَّى وَجَدْتُ بَرْدَ قَدَمَيْهِ عَلَى بَطْنِي، فَقَالَ: "أَلَا أَدُلُّكُمَا عَلَى خَيْرٍ مِمَّا سَأَلْتُمَا، إِذَا أَخَذْتُمَا مَضَاجِعَكُمَا فَسَبِّحَا ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ، وَاحْمَدَا ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ، وَكَبِّرَا أَرْبَعًا وَثَلَاثِينَ، فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمَا مِنْ خَادِمٍ"، وفي رواية قال علي -رضي الله عنها-: "فَمَا تَرَكْتُهَا بَعْدُ، قِيلَ: وَلَا لَيْلَةَ صِفِّينَ؟ قَالَ: وَلَا لَيْلَةَ صِفِّينَ".
كان سلف الأمة يداومون على الأعمال الصالحة، ويثبتون على الخيرات، ويحرصون على الأجور، ويسابقون إلى المنازل العالية عند ربِّ السموات والأرض.
وكان الحبيب -صلى الله عليه وسلم- يحثنا على الثبات والمداومة على الأعمال الصالحة؛ فجاء في صحيح مسلم عَنْ أم المؤمنين عَائِشَةَ -رضي الله عنها-: "أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- سُئِلَ أَيُّ الْعَمَلِ أَحَبُّ إِلَى اللهِ؟ قَالَ: "أَدْوَمُهُ وَإِنْ قَلَّ".
أورد البخاري ومسلم في صحيحيهما عَنْ عَلْقَمَةَ، قَالَ: "سَأَلْتُ أُمَّ المُؤْمِنِينَ عَائِشَةَ -رضي الله عنها- قُلْتُ: يَا أُمَّ المُؤْمِنِينَ، كَيْفَ كَانَ عَمَلُ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- هَلْ كَانَ يَخُصُّ شَيْئًا مِنَ الأَيَّامِ؟ قَالَتْ: "لاَ، كَانَ عَمَلُهُ دِيمَةً، وَأَيُّكُمْ يَسْتَطِيعُ مَا كَانَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَسْتَطِيعُ".
قال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله" يعني أن الإنسان إذا اعتاد فعل الخير فينبغي أن يداوم عليه، فمثلا إذا اعتاد ألا يدع الرواتب -يعني الصلوات النوافل التي تتبع الصلوات الخمس- فليحافظ على ذلك،
وإذا كان يقوم الليل فليحافظ على ذلك،
وإذا كان يصلى ركعتين من الضحى فليحافظ على ذلك، وكل شيء من الخير إذا اعتادهفإنه ينبغي أن يحافظ عليه، وكان من هدى النبي -صلى الله عليه وسلم- أن عمله ديمة، يعني يداوم عليه".
الخطبة الثانية :
ومن آثار المداومة الى العمل الصالح : أنها سببٌ لمحو الخطايا والذنوب، قال رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: “ أَرَأَيْتُمْ لَوْ أَنَّ نَهْرًا بِبَابِ أَحَدِكُمْ يَغْتَسِلُ مِنْهُ كُلَّ يَوْمٍ خَمْسَ مَرَّاتٍ، هَلْ يَبْقَى مِنْ دَرَنِهِ شَيْءٌ؟” قَالُوا: لَا يَبْقَى مِنْ دَرَنِهِ شَيْءٌ. قَالَ: “فَذَلِكَ مَثَلُ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ يَمْحُو اللَّهُ بِهِنَّ الْخَطَايَا” (متفق عليه).
أيها الإخوة: مَنْ داوم على عمل صالح، ثم انقطع عنه بسبب مرض أو سفر أو نوم كُتِبَ له أجرُ ذلك العمل،
فعن أبي موسى -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "إِذَا مَرِضَ الْعَبْدُ أَوْ سَافَرَ كُتِبَ لَهُ مِثْلُ مَا كَانَ يَعْمَلُ مُقِيمًا صَحِيحًا". (رواه البخاري)،
قال ابن حجر: "وهو في حقّ مَنْ كان يعمل طاعة فمنع منها، وكانت نيته لولا المانع أن يدوم عليها"،
فعَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا- قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "مَا مِنْ امْرِئٍ تَكُونُ لَهُ صَلَاةٌ بِلَيْلٍ فَغَلَبَهُ عَلَيْهَا نَوْمٌ إِلَّا كَتَبَ اللَّهُ لَهُ أَجْرَ صَلَاتِهِ وَكَانَ نَوْمُهُ صَدَقَةً عَلَيْهِ". (رواه أبو داود، والنسائي، ومالك في الموطأ، وصححه الألباني).
ثم اعلموا -وفقكم الله: أن المداومة على العمل الصالح مطلب عزيز يحتاج منا إلى عزيمة صادقة على لزوم العمل، والمداومة عليه، ونبذ العجز والكسل، وهما الداء الدَّوِيّ الذي يُرْدِي بنشاط العبد إلى الخمول، وحياته إلى الخمود، ما لم يتدارك نفسَه من تلك الوهدة.
والدليل على خطرهما: أن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- استعاذ بالله منها، فَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: كُنْتُ أَسْمَعُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَثِيرًا مَا يَقُولُ: "اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الهَمِّ وَالحَزَنِ، وَالعَجْزِ وَالكَسَلِ، وَالبُخْلِ وَالجُبْنِ، وَضَلَعِ الدَّيْنِ، وَغَلَبَةِ الرِّجَالِ" (رواه البخاري)، فاستعيذوا بالله منهما واحملوا النفسَ على ضدهما تفلحوا.
واعلموا أن من فوائد رمضان أنه يدرِّب الإنسان على الأعمال الصالحة، فحريٌّ بكلِّ مؤمن تنعَّم بالطاعة فيه، أن يستمر على شيءٍ منها بعده. ومن أهمها صلاة الوتر، كذلك قراءة شيء من كتاب الله يوميًّا. وصيامُ بعض الأيام خلال العام. ولا تقفوا على حدّ من الطاعة معين، وتقول: هذا يكفي، بل حاولوا أن ترتقوا في سُلَّم الطاعة برفق.
فيا من داومت على قيام شهر رمضان: لا يحسن بك ترك القيام بعده ولو بركعات قليلة؛
فعن عبد الله بن عمرو -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "يَا عَبْدَ اللهِ بْنَ عَمْرٍو، لا تَكُنْ مِثْلَ فُلانٍ، كَانَ يَقُومُ اللَّيْلَ فَتَرَكَ قِيَامَ اللَّيْلِ". (متفق عليه).
وقد تفطَّنَت أُمُّنَا أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ عَائِشَةُ لهذا المعنى ووعته حقَّ الوعي فَكَانَتْ تُصَلِّي الضُّحَى ثَمَانِيَ رَكَعَاتٍ. ثُمَّ تَقُولُ: "لَوْ نُشِرَ لِي أَبَوَايَ مَا تَرَكْتُهُنَّ" (الموطأ ابن أبي شيبة، وأبو يعلى، وصححه الألباني). أي: لو بُعِثَا لي.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق