( موت العلماء )
عباد الله
لقد بعث الله محمداً إلى الخلق على حين فترة من الرسل ، وقد مقت أهل الأرض عربَهموعجمَهم إلا بقايا من أهل الكتاب ، ماتوا أو أكثرُهم قبل مبعثه ، والناس إذ ذاك في جاهلية جهلاء ، يعبدون الأصنام ، ويأكلون الميتة، ويأتون الفواحش ، ويقطعون الأرحام ، ويأكل القويُ منهم الضعيف ؛ فبعث الله لهم محمداً يعرفون نسبه ويعرفون صدقه ويعرفون أمانته وعفته ، فهدى اللهُ الناسَ ببركة نبوة محمد هدايةً جلَّت عن وصف الواصفين ، وفاقت معرفة العارفين.
( هُوَ ٱلَّذِى بَعَثَ فِى ٱلأُمّيّينَ رَسُولاً مّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ ءايَـٰتِهِ وَيُزَكّيهِمْ وَيُعَلّمُهُمُ ٱلْكِتَـٰبَ وَٱلْحِكْمَةَوَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِى ضَلَلٍ مُّبِينٍ [الجمعة:2
إن البريـة يـوم مبعث أحمـدٍ نظـر الإله لهـا فبدّل حالها
بل كرّم الإنسان حين اختار من خير البريـة نجمها وهلالها
لبس المرقّع وهـو قـائد أمـةٍ جبت الكنوز فكسّرت أغلالها
أيها المسلمون
لقد أخبر الرسول أنَّ له تركة وميراثاً ، لا يمكن أن يُختص بها إلا من أراد الله له الخير وأخبر أن هذا الميراث ليس من فئة الدينار والدرهم ، وإنما هو العلم الذي من تحصل عليه فإنما وفق لخير عظيم قال : ((إِنَّ الْعُلَمَاءَ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ و إِنَّ الْأَنْبِيَاءَ لَمْ يُوَرِّثُوا دِينَارًا وَلَا دِرْهَمًا، إِنَّمَا وَرَّثُوا الْعِلْمَ فَمَنْ أَخَذَه أَخَذَ بِحَظٍّ وافر)) رواه أبو داود والترمذي وغيرهم
إن العلماء يقومون في الأمة مقام الأنبياء ، يبصرونها الهدى ، ويجنبونها الردى ، ويمسكون بِحُجَزها أن تسلك درب ضلالة ، أو تقع في هاوية غواية .
إن العلماء في الأمة بمنزلة العينين من الرأس ، وهم الذين يبّصرون الأمة بدينها ويوقعون عن الله في وقائع حياتها ، فتصدر الأمة عن أحكامهم وتقتفي فُتياهم واجتهاداتهم .
قال الله تعالى:{ شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم قائمًا بالقسط لا إله إلا هو العزيز الحكيم}
قال القرطبي: هذه الآية دليل على فضل العلم وشرف العلماء، فإنه لو كان أحد أشرف منالعلماء لقرنهم الله باسمه واسم ملائكته.
يقول الله جل وعلا: ( يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات )
وهذه الرفعة تكون في الدنيا والآخرة، وللعلماء نصيب من قوله تعالى:{ورفعنا لك ذكرك}
والعلماء هم أمناء الله على خلقه ، وهذا شرف للعلماء عظيم ، ومحل لهم في الدين خطير ؛ لحفظهم الشريعة من تحريف المبطلين ، وتأويل الجاهلين ، والرجوع والتعويل في أمر الدين عليهم ، فقد أوجب الحق سبحانه سؤالهم عند الجهل ، فقال تعالى : ((فاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ )) [النحل: 43]
وهم أطباء الناس على الحقيقة ، إذ مرض القلوب أكثر من الأبدان ، فالجهل داء ، والعلم شفاء هذه الأدواء ، وكما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( فإنما شفاء العي السؤال ) [ أخرجه أبو داود (336)]
وقد مدح الله أهل العلم وأثنى عليهم ، فجعل كتابه آيات بينات في صدورهم ، به تنشرح وتفرح وتسعد .
قال الله تعالى : (( بل هو آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم وما يجحد بآياتنا إلا الظالمون ))[ العنكبوت:49]
- لا ينقطع عمل العالم بموته :
بخلاف غيره ممن يعيش ويموت ، وكأنَّه من سقط المتاع ، أمَّا أهل العلم الربانيون الذين ينتفع بعلمهم من بعدهم فهؤلاء يضاعف لهم في الجزاء والأجر.
عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : (( إذا مات الإنسان انقطع عنه عمله إلا من ثلاثة : إلا من صدقة جارية ، أو علم ينتفع به ، أو ولد صالح يدعو له ))[ أخرجه مسلم].
- الاستغفار للعالم :
ويكفي صاحب العلم فضلاً أنَّ الله يسخر له كل شيء ليستغفر له ويدعو له ، فعن أنس بن مالك رضي الله عنه أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : (( صاحب العلم يستغفر له كل شيء حتى الحوت في البحر ))
مـا الفخر إلا لأهل العلم إنهم ... على الهدى لمن استهدى أدلاء
وقدر كل امرئ ما كان يحسنه ... والجـاهلون لأهل العلم أعداء
ففـز بعـلم تعش حيا به أبدا ... الناس موتى وأهل العلم أحياء
عباد الله
العلماء ورثة الأنبياء وقرة عين الأولياء وبهم تحفظ الملة وتقوم الشريعة، ينفون عن دين الله تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الضالين، فلله درهم وعليه أجرهم ما أحسن أثرهم وأجمل ذكرهم، رفعهم الله بالعلم وزينهم بالحلم، بهم يعرف الحلال من الحرام والحق منالباطل،
حياتهم غنيمة وموتهم مصيبة، يُذكرون الغافل، ويُعَّلمون الجاهل، جميع الخلق إلى علمهم محتاج، هم سراج العباد، ومنار البلاد، وقوام الأمة، وينابيع الحكمة،
هم غيظ الشيطان، بهم تحيا قلوب أهل الحق وتموت قلوب أهل الزيغ، مثلهم في الأرض كمثل النجوم في السماء يهتدي بها في ظلمات البر والبحر، إذا انطمست النجوم تحيروا، وإذا أسفر عنها الظلام أبصروا.
أيها المسلمون، وحيث كان العلماء من الأمة بهذه المثابة وتبوؤا منها هذه المرتبة فإن رزيتها بفقدهم من أعظم الرزايا وأقساها .
لعمرك ما الرزية فقد مال ولا شاة تـموت ولا بعير .
ولكن الرزية فقــد حر يموت بـموته خلق كثير
وإن فقد العالم أيها المسلمون، ليس فقداً لشخصه ، وليس فقداً لصورته ، ولا لحمه ودمه ، ولكنه فقد لجزء من ميراث النبوة ، إنه فقد لجزء كبير ، بحسب ما قام به العالم من الجهد والتحقيق ، وهكذا يختلس العلم ويقبض بقبض حملته الذين هم العلماء
عَنْ أَبِي أُمَامَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ أَنَّهُ قَالَ : ((خُذُوا الْعِلْمَ قَبْلَ أَنْ يَذْهَبَ)) . قَالُوا : وَكَيْفَ يَذْهَبُالْعِلْمُ يَا نَبِيَّ اللَّهِ وَفِينَا كِتَابُ اللَّهِ قَالَ : فَغَضِبَ ، ثُمَّ قَالَ : ((ثَكِلَتْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ أَوَلَمْ تَكُنِ التَّوْرَاةُوَالْإِنْجِيلُ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمْ شَيْئًا ، إِنَّ ذَهَابَ الْعِلْمِ أَنْ يَذْهَبَ حَمَلَتُهُ ، إِنَّ ذَهَابَ الْعِلْمِ أَنْ يَذْهَبَ حَمَلَتُهُ ))
وعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ قَالَ : كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ فَشَخَصَ بِبَصَرِهِ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ قَالَ : ((هَذَا أَوَانُيُخْتَلَسُ الْعِلْمُ مِنَ النَّاسِ حَتَّى لَا يَقْدِرُوا مِنْهُ عَلَى شَيْءٍ)) فَقَالَ زِيَادُ بْنُ لَبِيدٍ الْأَنْصَارِيُّ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، وَكَيْفَ يُخْتَلَسُ مِنَّا وَقَدْ قَرَأْنَا الْقُرْآنَ فَوَاللَّهِ لَنَقْرَأَنَّهُ وَلَنُقْرِئَنَّهُ نِسَاءَنَا وَأَبْنَاءَنَا فَقَالَ : ((ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ يَا زِيَادُ إِنْ كُنْتُ لَأَعُدُّكَ مِنْ فُقَهَاءِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ ، هَذِهِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ عِنْدَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى فَمَاذَا يُغْنِي عَنْهُمْ ؟)) رواه الترمذي والدارمي .
وعَنْ عَبْدِاللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رضي الله عنهما قَالَ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ يَقُولُ : ((إِنَّ اللَّهَ لَا يَقْبِضُ الْعِلْمَ انْتِزَاعًا يَنْتَزِعُهُ مِنَ الْعِبَادِ وَلَكِنْ يَقْبِضُ الْعِلْمَ بِقَبْضِ الْعُلَمَاءِ حَتَّى إِذَا لَمْ يُبْقِ عَالِمًا اتَّخَذَ النَّاسُ رؤوسًا جُهَّالًا فَسُئِلُوا فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا)) رواه البخاري ومسلم .
قال النووي: هذا الحديث يبين أن المراد بقبض العلم ليس هو محوه في صدور حفاظه، ولكن معناه أن يموت حملته، ويتخذ الناس جهالاً يحكمون بجهالتهم فيضلون ويضلون.
إذا أُدْركنا ذلك أيها المسلمون تبين أن فقد العالم لا يعوِّض عنه مال ولا عقار ، ولا متاع ولا دينار ، بل إن فقده مصيبةٌ على الإسلام والمسلمين لا يعوض عنه شيء، قال ابن مسعود : ((موت العالم ثلمة في الإسلام لا يعوض عنه شيء ما اختلف الليل والنهار)) رواه ابن عبد البر
قال عمر رضي الله عنه: موت ألف عابد أهون من موت عالم بصير بحلال الله وحرامه.
قال ابن القيم: ووجه قول عمر أن هذا العالم يهدم على إبليس كل ما يبنيه بعلمه وإرشاده، وأما العابد، فنفعه مقصور على نفسه.
وعن الحسن قال: كانوا يقولون: (موت العالم ثلمة في الإسلام لا يسدها شيء ما اختلف الليل والنهار)
عباد الله
اعلموا أن حاجتكم إلى العلماء فوق كل حاجة، فهم والله مصابيح الدجى وعلامات الهدى، فالعلماء في الناس كالشمس للدنيا والعافية للناس.
فالناس لا يعرفون كيف يُعبد الله إلا ببقاء العلماء،
فإذا مات العلماء تحير الناس واندرس العلم بموتهم، في صحيح البخاري من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: سمت رسول الله يقول: ((إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من العباد، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء [أي بوفاتهم] حتى إذا لم يبق عالماً اتخذ الناس رُءُوساءً جهالاً فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا)).
وقال ابن عباس رضي الله عنهما في تفسير قوله جل وعلا: أولم يروا أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها. . الآية. قال: خراب الأرض بموت علمائها وفقهائها وأهل الخير منها، وقال مجاهد: هو موت العلماء.
الأرض تحيا إذا مـا عـاش عالمها… متى يمت عالم منها يمت طرفُ
كالأرض تحيا إذا ما الغيث حل بها... وإن أبـى عـاد في أكنافها التلف}
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق