( أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ )
الخُطْبَةُ الأُولَى:
الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آل عمران: 102], أما بعد:
أيها المؤمنون: في صحيح البخاري، عَنِ البَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ قَالَ: "كَانَ رَجُلٌ يَقْرَأُ سُورَةَ الكَهْفِ، وَإِلَى جَانِبِهِ حِصَانٌ مَرْبُوطٌ بِشَطَنَيْنِ، فَتَغَشَّتْهُ سَحَابَةٌ، فَجَعَلَتْ تَدْنُو وَتَدْنُو, وَجَعَلَ فَرَسُهُ يَنْفِرُ، فَلَمَّا أَصْبَحَ أَتَى النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ؛ فَقَالَ "تِلْكَ السَّكِينَةُ تَنَزَّلَتْ بِالقُرْآنِ"؛ "بشطنين" تثنية شطن, وهو الحبل.
الرسول -صلى الله عليه وسلم- سنّ لنا قراءة سورة الكهف كل يوم جمعة، لماذا سورة الكهف؟؛ لأن في سورة الكهف أحداث قصة موسى والخضر -عليهما السلام-، وما أدراك ما شأن أحداث قصة موسى والخضر -عليهما السلام-؟! إنها أحداث وأقدار إلهيه في ظاهرها العذاب، وفي باطنها الرحمة!.
وكأني برسول الله -صلى الله عليه وسلم-، يقول لنا: اقرؤوا الكهف، واقرؤوا أحداث قصة موسى والخضر، واقرؤوها كل جمعة؛ فإنها ستمرّ بكم في حياتكم، وستقع لكم ولغيركم من أمتكم، أحداث وأقدار كالتي وقعت مع موسى والخضر -عليهما السلام-، أحداث وأقدار إلهيه في ظاهرها العذاب، وفي باطنها الرحمة.
وكأني برسول الله -صلى الله عليه وسلم-، يقول لنا: اقرؤوا أحداث قصة موسى والخضر -عليهما السلام-، حتى تروا حكمة الله في أقدار وقضاءات وأفعال إلهيه، في ظاهرها العذاب وفي باطنها الرحمة.
اقرؤوها حتى إذا ما وقع لكم، أو لغيرهم كتلك الأقدار؛ لم تكونوا ممن (وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا)[الأحزاب: 10].
اقرؤوها حتى لا تكونوا من الذين (يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ)[آل عمران: 154].
اقرؤوها حتى لا تكونوا من (الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ)[الفتح: 6].
اقرؤوها حتى تكونوا من الذين (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ)[المائدة: 119]، من الذين يقولون: (أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ)[البقرة: 131].
أيها الإخوة: إن من ينظر إلى ظاهر أفعال الخضر -عليه السلام-، هكذا مجردة، يجزم بأنها شر محض لا رحمة فيها، ولا حكمة لها!؛ فأيّ رحمة تلك في خرق سفينة تحمل ركابا؟؛ بل أي حكمة في تدمير أموال المساكين والضعفاء والبسطاء؟! وأي رحمة في قتل الغلمان؛ بل أي حكمة في قتل الأطفال؟! وأي رحمة في بناء وإعمار شيء لا علاقه لك به؛ بل أي حكمة في جهد لا مقابل لك عليه؟!.
ولكن الله الحكيم -سبحانه- حصر أفعال الخضر هذه، التي تبدو غريبة عجيبة مسلوبة الحكمة والرحمة في ظاهرها، حصرها -، بقوله (وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي)[الكهف: 82], يقول الخضر: وما فعلته عن أمري؛ فالأمر أمر الله، والقضاء قضاؤه، والفعل فعله، والحكمة حكمته -سبحانه وتعالى-.
نعم -أيها الإخوة- إن هذه الأحداث الثلاثة، تقول لكل مَن يشهد أقدار الله في نفسه وفي غيره، وفي أمته مما ظاهرها لا يسرّ الناظرين، تقول له: إنك قد ترى أن لا خير في بعض أقدار الله التي تقع, ولا تسرّ الناظرين في ظاهرها،
أقول: نعم، قد لا ترى فيها خيرا لك أنت، ولكن حكمة الله تقول: إن فيها خيرا عظيما لغيرك، فلا تتّهم الله في قضائه؛ فموسى -عليه السلام- المراقب للحدث، رأى في ظاهر فعل الخضر -عليه السلام- في تدمير أموال المساكين أنْ لا خير له, ولكن حكمه الله تقول: إن فيها خيرا لغيرك يا موسى.
نعم -أيها الإخوة- إن هذه الأحداث الثلاثة، تقول لكل مَن يشهد أقدار الله في نفسه وفي غيره، وفي أمته مما ظاهرها لا يسرّ الناظرين، تقول له: إنك قد ترى أن لا خير في بعض أقدار الله التي تقع ولا تسر الناظرين في ظاهرها،
أقول لك: نعم, قد لا ترى فيها خيرا في زمنك ولجيلك الذي تعيشه، ولكن حكمه الله تقول: إن الخير يكمن فيها للأجيال القادمة، وللأزمان اللاحقة؛ فموسى -عليه السلام-، رأى أن لا خير في بناء الجدار، ولكن حكمة الله كانت تخبئ تحت هذا القدر الخير، كل الخير للأجيال القادمة.
نعم -أيها الإخوة- إن هذه الأحداث الثلاثة، تقول لكل مَن يشهد أقدار الله في نفسه وفي غيره، وفي أمته مما ظاهرها لا يسرّ الناظرين، تقول له: إنك قد ترى أن لا خير في بعض أقدار الله التي تقع ولا تسر الناظرين في ظاهرها،
أقول لك: نعم, قد لا ترى فيها خيرا ماديا فقط، ولكن حكمة الله تقول: إن فيها خيرا دينيا وإيمانيا ، مدخرا لك أو لغيرك؛ فموسى رأى أنْ لا خير مادي في قتل الغلام، ولكن حكمة الله كانت تخبئ تحت هذا القدر خيرا دينيا وإيمانيا لأهل الغلام المقتول ومَنْ حوله، فلا تتعجّل في الحكم على أقدار الله، ولا تتسرع في اتهام الله في قضائه، ولا تقل ما يغضب الله، ولكن قل: (أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ)[التين: 8].
الخطبة الثانية:
صلى عليك الله يا رسول الله!، لقد كنت سيد المستسلمين لله في أقداره، وكنت سيد المؤدبين مع الله في أقضيته؛ ففي صحيح البخاري، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: دَخَلْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- عَلَى أَبِي سَيْفٍ القَيْنِ، وَكَانَ ظِئْرًا لِإِبْرَاهِيمَ -عليه السلام-، فَأَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- إِبْرَاهِيمَ، فَقَبَّلَهُ وَشَمَّهُ، ثُمَّ دَخَلْنَا عَلَيْهِ بَعْدَ ذَلِكَ وَإِبْرَاهِيمُ يَجُودُ بِنَفْسِهِ، فَجَعَلَتْ عَيْنَا رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- تَذْرِفَانِ، فَقَالَ لَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-: وَأَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟! فَقَالَ: "يَا ابْنَ عَوْفٍ! إِنَّهَا رَحْمَةٌ"، ثُمَّ أَتْبَعَهَا بِأُخْرَى، فَقَالَ -صلى الله عليه وسلم-: "إِنَّ العَيْنَ تَدْمَعُ، وَالقَلْبَ يَحْزَنُ، وَلاَ نَقُولُ إِلَّا مَا يَرْضَى رَبُّنَا، وَإِنَّا بِفِرَاقِكَ يَا إِبْرَاهِيمُ لَمَحْزُونُونَ"؛
"وَلاَ نَقُولُ إِلَّا مَا يَرْضَى رَبُّنَا"، لم يقل النبي -صلى الله عليه وسلم- وحاشاه حاشاه: لماذا يا رب فعلت ذلك بابني؟، لم يقل: لماذا الله متسلط عليّ وعلى أسرتي؟، لم يقل: فوق إني عبد ملتزم ومع ذلك فالله يبتليني، ويقبض روح ابني الوحيد أمام عيني، حاشاه؛ بل قال: "وَلاَ نَقُولُ إِلَّا مَا يَرْضَى رَبُّنَا".
ومن يدريك -يا أيها المؤمن- فلعل في موت الابن رحمة له من عناء الدنيا الذي كان سيلقاه؟! ومن يدريك: فلعل في موته قطعا لطريق الشر الذي كان سيسلكه؟! ومن يدريك: فلعل موته سيكون سببا في دخولك الجنة، يوم تلقى ربك، ويوم تلقى ابنك؟؛
ففي الحديث الحسن في سنن الترمذي، عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي سِنَانٍ قَالَ: دَفَنْتُ ابْنِي سِنَانًا، وَأَبُو طَلْحَةَ الخَوْلَانِيُّ جَالِسٌ عَلَى شَفِيرِ القَبْرِ، فَلَمَّا أَرَدْتُ الخُرُوجَ أَخَذَ بِيَدِي، فَقَالَ: أَلَا أُبَشِّرُكَ يَا أَبَا سِنَانٍ؟, قُلْتُ: بَلَى، فَقَالَ: حَدَّثَنِي الضَّحَّاكُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَرْزَبٍ، عَنْ أَبِي مُوسَى الأَشْعَرِيِّ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "إِذَا مَاتَ وَلَدُ العَبْدِ قَالَ اللَّهُ لِمَلَائِكَتِهِ: قَبَضْتُمْ وَلَدَ عَبْدِي، فَيَقُولُونَ: نَعَمْ، فَيَقُولُ: قَبَضْتُمْ ثَمَرَةَ فُؤَادِهِ، فَيَقُولُونَ: نَعَمْ، فَيَقُولُ: مَاذَا قَالَ عَبْدِي؟, فَيَقُولُونَ: حَمِدَكَ وَاسْتَرْجَعَ، فَيَقُولُ اللَّهُ: ابْنُوا لِعَبْدِي بَيْتًا فِي الجَنَّةِ، وَسَمُّوهُ بَيْتَ الحَمْدِ", فأنت لوا امتلكت ألف ولد، مع كل ولد ألف خزنة، ما كان ذلك ليكفي في أن يضع لك حجر الأساس في قصر الحمد هذا، هناك في الجنة!.
إن العبد قد يسأل الله -عز وجل- أمرا من أمور الدنيا، أو قد يتمنّى الواحد أن يحقّق الله له أو لأحد أحبابه أمنية دنيوية، وقد يسْأل الله ويسْأل, ويتمنّى ويلّح في السؤال، ويرى أن الخير كلّ الخير في أن يعطيه الله سُؤْلَه، وأن يحقق له أمنيته ومراده،
ولكن العبد يجد بأن الله -تعالى- قد لا يحقق له ما تمناه وسأله من أمور الدنيا المادية، هذا إن لم يكن حصل معه عكس ما سعى إليه, فلا اعتراض على قدر الله، فهو -سبحانه- الحكيم, وهو المعطي المانع، فما أعطى الله العبد سُؤْله إلا لحكمه، وما منعه إلا لحكمه ومصلحة.
نعم -أيها المؤمن- الله أحكم الحاكمين، إن الله قد يمنع عنك لعاعة من الدنيا تسعى وراءها، يمنعها عنك؛ ليمنع تسرّب دينك وخسارة إيمانك، ليمنع تسرّب الخشوع من قلبك، ليمنعك من التسرّب من المسجد، ليمنع تسرّب الدين والصلاح من بيتك ومن حياتك؛ (أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِالْحَاكِمِينَ)[التين:
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق