( الظلم في الدعاوى والفجور في الخصومة )
الخطبة الاولى :
أما بعد فيا أيها الناس : اتقوا الله وراقبوه ، واعلموا أن الله مطلع عليكم لا تخفى عليه منكم خافية ، فالسر عنده علانية ، يعلم السر وأخفى ، فتعاملوا مع ربكم بالإحسان ، والخوف من الديان ، فإياكم وتجاوز ما حده ربكم لكم ، وإياكم والمجاهرة بالمعاصي ، والحذر الحذر من ظلم الناس ، فالظلم ظلمات يوم القيامة .
معاشر المؤمنين : تحصل الخصومات بين الناس ، وكل يدعي الحق له ، وقد يطول الأمر ويكبر ، حتى يفجر البعض في الخصومة ، فيحلف كذبا ، ويشهد زورا ، ليأكل حق أخيه بغير حق .
إن الدعاوى الكاذبة والكيدية ، ظلم للعباد ، والظلم ظلمات يوم القيامة ، والله لا يحب الظالمين .
قال الذهبي: "الظلم يكون بأكل أموال الناس وأخذها ظلماً، وظلم الناس بالضرب والشتم والتعدي والاستطالة على الضعفاء"، وقد عده من الكبائر .
وقد وردت النصوص التي تذم الظلم: قال تعالى: {وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِم مَّوْعِداً} [الكهف:59].
. وقال: {وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} [آل عمران من الآية:57].
وقال: {أَلَا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذَابٍ مُّقِيمٍ} [الشورى من الآية:45]،
قوله تعالى: {إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُوْلَئِكَ لَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ} [الشورى:42].
وأخرج الشيخان في صحيحيهما من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله ليملي للظالم، حتى إذا أخذه لم يفلته» ثم قرأ: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} وفي مسلم : «اتقوا الظلم؛ فإن الظلم ظلمات يوم القيامة» .
وأخرج مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تحاسدوا ولا تناجشوا ولا تباغضوا، وكونوا عباد الله إخوانًا، المسلم أخو المسلم، لا يظلمه، ولا يخذله، ولا يحقره، التقوى ها هنا -ويشير إلى صدره ثلاث مرات-، بحسب امرئٍ من الشر أن يحقر أخاه المسلم، كل المسلم على المسلم حرام، دمه وماله وعرضه»
ولا يجوز لمسلم أن يقر الظالم على ظلمه فضلا عن أن يرضى بذلك ، قال يوسف بن أسباط: "من دعا لظالم بالبقاء، فقد أحب أن يُعْصَى الله في أرضه".
وقال ابن مسعود رضي الله عنه: "لما كشف العذاب عن قوم يونس عليه السلام ترادوا المظالم بينهم، حتى كان الرجل ليقلع الحجر من أساسه فيرده إلى صاحبه".
وقال أبو ثور بن يزيد: "الحجر في البنيان من غير حله عربون على خرابه".
وكان يزيد بن حاتم يقول: "ما هِبْتُ شيئًا قط هيبتي من رجل ظلمته، وأنا أعلم أن لا ناصر له إلا الله، فيقول: حسبي الله، الله بيني وبينك".
وبكى عليٌّ بن الفضيل يومًا، فقيل له: "ما يبكيك؟ قال: أبكي على من ظلمني إذا وقف غدًا بين يدي الله تعالى ولم تكن له حجة".
ونادى رجل سليمان بن عبد الملك وهو على المنبر: "يا سليمان اذكر يوم الأذان"، فنزل سليمان من على المنبر، ودعا بالرجل، فقال له: ما يوم الأذان؟ فقال: قال الله تعالى: {فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَن لَّعْنَةُ اللّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} [الأعراف من الآية:44].
وقال أبو الدرداء رضي الله عنه: "إياك ودمعة اليتيم، ودعوة المظلوم، فإنها تسري بالليل والناس نيام".
وقيل: إن الظلم ثلاثة: فظلم لا يُغفر، وظلم لا يُترك، وظلم مغفور لا يُطلب، فأما الظلم الذي لا يغفر فالشرك بالله، نعوذ بالله تعالى من الشرك، قال تعالى: {إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِوَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ} [النساء من الآية:48]، وأما الظلم الذي لا يترك، فظلم العباد بعضهم بعضًا، وأما الظلم المغفور الذي لا يطلب، فظلم العبد نفسه.
ومرّ رجل برجل قد صلبه الحجاج، فقال: "يا ربّ إن حلمك على الظالمين قد أضر بالمظلومين، فنام تلك الليلة، فرأى في منامه أن القيامة قد قامت، وكأنه قد دخل الجنة، فرأى ذلك المصلوب في أعلى عليين، وإذا منادٍ ينادي، حلمي على الظالمين أحلَّ المظلومين في أعلى عليين".
ويقال: "من طال عدوانه زال سلطانه".
قال عمر رضي الله عنه: "واتقِ دعوة المظلوم، فإن دعوة المظلوم مستجابة".
وقد حذرنا رسولُنا عليه الصلاة والسلام أشدَ تحذيرٍ فَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ علليه الصلاة والسلام يَقُولُ: «مَنْ حَالَتْ شَفَاعَتُهُ دُونَ حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ، فَقَدْ ضَادَّ اللَّهَ، وَمَنْ خَاصَمَ فِي بَاطِلٍ وَهُوَ يَعْلَمُهُ، لَمْ يَزَلْ فِي سَخَطِ اللَّهِ [أي غضبه] حَتَّى يَنْزِعَ عَنْهُ، وَمَنْ قَالَ فِي مُؤْمِنٍ مَا لَيْسَ فِيهِ أَسْكَنَهُ اللَّهُ رَدْغَةَ الْخَبَالِ حَتَّى يَخْرُجَ مِمَّا قَالَ» رواه أبو داود وصححه الألباني.
وفي رواية لابن ماجة: «مَنْ أَعَانَ عَلَى خُصُومَةٍ بِظُلْمٍ، أَوْ يُعِينُ عَلَى ظُلْمٍ، لَمْ يَزَلْ فِي سَخَطِ اللَّهِ حَتَّى يَنْزِعَ» وصححه الألباني عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا.
ومعنى قولَه «مَنْ خَاصَمَ» أَيْ جَادَلَ أَحَدًا «فِي بَاطِلٍ وَهُوَ يَعْلَمُهُ» أَيْ يَعْلَمُ أَنَّهُ بَاطِلٌ أَوْ يَعْلَمُ نَفْسَهُ أَنَّهُ عَلَى بَاطِلٍ أَوْ يَعْلَمُ أَنَّ خَصْمَهُ عَلَى حَقٍّ وَيُصِرُّ عَلَيْهِ «لَمْ يَزَلْ فِي سَخَطِ اللَّهِ تَعَالَى» أي غضبه الشديد «حَتَّى يَنْزِعَ» أَيْ يُقْلِع عَما هُوَ عَلَيْهِ، وهذا وَعِيدٌ شَدِيدٌ يُفِيدُ أَنَّ هذَا كبيرةً ولذلك عَدَّهُ الذَهَبِيُ مِنْ الكَبَائِرِ..
وفي هذه الأيام تظل الدعاوى أشهراً وربما سنوات طويلةً، في المحاكم فكم سيظل هؤلاء في سخط الله وغضبه منذ أَنْ خاصموا.؟! نعوذ بالله من هذه الحال وسوء المآل..
وَقَالَ ابنُ رَجَبٍ رحمه الله: "فَإِذَا كَانَ الرَّجُلُ ذَا قُدْرَةٍ عِنْدَ الْخُصُومَةِ -سَوَاءٌ كَانَتْ خُصُومَتُهُ فِي الدِّينِ أَوْ فِي الدُّنْيَا- عَلَى أَنْ يَنْتَصِرَ لِلْبَاطِلِ، وَيُخَيِّلَ لِلسَّامِعِ أَنَّهُ حَقٌّ، وَيُوهِنَ الْحَقَّ، وَيُخْرِجَهُ فِي صُورَةِ الْبَاطِلِ، كَانَ ذَلِكَ مِنْ أَقْبَحِ الْمُحَرَّمَاتِ، وَمِنْ أَخْبَثِ خِصَالِ النِّفَاقِ".
اللهم إنا نعوذ بك أن نظلم أو نظلم يارب العالمين
أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم ...........
الخطبة الثانية
أما بعد فيا أيها الناس : إن من أنواع الظلم ، ما يسمى بالدعوى الكيدية ، وهي أن يدعي على غيره كذبا بما ليس له ، ولكن من أجل أن يضر به ، ليأخذ ماله ، أو يسجنه ، أو غيرها من المقاصد ، وهذا ظلم وعدوان ، يعاقب عليه الشرع في الدنيا ، وصاحبه من الملعونين يوم القيامة ، والعياذ بالله ،
فاتقوا الله عباد الله ، ولا تظلموا أنفسكم بظلم الناس ، ولا يغرنكم السلطان ، ولا المكانة ، ولا النسب ولا المال ، فيموت الإنسان ويدفن وحده ، ويحاسب وحده ، كما قال الله عن الكافر ( وأما من أوتي كتابه بشماله فيقول يا ليتني لم أوتى كتابيه ، ولم أدر ما حسابيه ، يا ليتها كانت القاضية ، ما أغنى عني ماليه ، هلك عني سلطانيه )
وإن من مقاصد الدعاوى الكيدية أن يلحق الضرر بأخيه المسلم ، فيلبسه تهمة هو منها بريء ، فيسجن بسببه ، أو تصادر أمواله ، أو يتهم في عرضه ، وهذا من الظلم والعدوان والبغي الذي يعجل الله العقوبة فيه للظالم في الدنيا ، فضلا عما ينتظره في الآخرة .
والدعاوى الكيدية ليست فقط أمام المحاكم والقضاة ، فقد يدّعي شخص امام الناس على شخص آخر : جار او صديق او رجل ممن بينه وبينه معرفة او حتى زوجة او الزوجة تدّعي على زوجها او جارتها ا واو او ... قد يكون الاتهام في العرض والشرف والسمعة او في المال او في امور اخرى
كل ذلك من الظلم والباطل والحرام والبهتان والزور والكذب وربما دخل فيها ايمان وحلف ..
[وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ المُؤْمِنِينَ وَالمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا]
فاتقوا الله عباد الله ، ولا تظالموا ، ولعبد يعفو ويصفح في الدنيا خير له وأبقى عند ربه ، ممن يطالب بحقه ولربما ظلم وبغى وتعدى وخاصم وفجر ، قال تعالى ( فمن عفى وأصلح فأجره على الله ) وقال ( ولمن صبر وغفر إن ذلك من عزم الأمور )
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق