إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

الخميس، 5 ديسمبر 2019

الفتن والمخرج منها

( الفتن والمخرج منها ) 
أيها المسلمون: قد قضى الله وقدَّر بعلمه وحكمته وقدرته أن تكون هذه الحياة الدنيا ميدانًا للخير وللشر، وللحسنات والسيئات، والصراعُ فيها بين حزب الله المُفلِحين وبين حزبِ الشيطان الخاسِرين، منذ أوجَدَ الله آدم -عليه السلام- في هذه الأرض، وقد علِمَ الله في الأَزَل ما الخلقُ عامِلون، وفي الآخرة يُجازِي الله ويُثيبُ على الحسنات أعظم الثواب، برِضوانه وجنات النعيم، ويُعاقِب على الكفر والنفاق والسيئات بأعظم العِقاب، بغضبه وعذاب الجحيم ( وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا) [الكهف: 49].
أيها الناس: إن الساعة قد اقترَبَت بأهوالها، وإن الدنيا قد دنا زوالُها قال عليه الصلاة والسلام : ( بعثت والساعة كهاتين ) ، وإن الفتن قد وقعَت بضلالها، فكونوا من الشرور حذِرين، وللحق والخيرات مُلازِمين...
وإن هذه الأمة شاهَدَت وستُشاهِد فتنًا كقِطع الليل المُظلِم، لا يُنجِي منها إلا الاعتصامُ بكتاب الله تعالى وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلمولزوم جماعة المسلمين وإمامهم، 
قال النبي -صلى الله عليه وسلم "إنه لم يكن نبيٌّ قبلي إلا كان حقًّا عليه أن يدُلَّ أمته على خير ما يعلمُه لهم، ويُنذِرَهم شرَّ ما يعلمُه لهم، وإن أمتكم جُعِلَ عافيتُها في أولها، وسيُصيبُ آخرَها بلاءٌ وأمورٌ تُنكِرونها، وتجِيءُ الفتن فيُرقِّقُ بعضُها بعضًا، وتجِيءُ الفتنة فيقول المؤمنُ : هذه مُهلِكَتي، ثم تنكشِف، وتجيءُ الفتنة فيقول المؤمنُ : هذه هذه، فمن أحبَّ أن يُزحزَحَ عن النار ويُدخَل الجنة فلْتأتِه منِيَّتُه وهو يؤمنُ بالله واليوم الآخر، ولْيأتِ إلى الناس الذي يُحبُّ أن يُؤتَى إليه، )رواه مسلم في صحيحه من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنهما-.

ومعنى قوله -عليه الصلاة والسلام "فلْيأتِ إلى الناس الذي يُحبُّ أن يُؤتَى إليه"، أي: فليُعامِل الناس المعاملة الحسنة ببذل الخير وكفِّ الشر، ولا يمنعهم حقوقهم، ولا يعتدي عليهم بدمٍ ولا مالٍ ولا عِرْض.
فطُوبى لمن مات على توحيد الله تعالى، وعُوفِي من ظلمِ أحدٍ من الناس.
أيها المسلمون: الفتنُ نوعان: خاصةٌ وعامة؛ فالفتنة الخاصة: التي تنزل بالفرد في نفسه، أو دينه، أو ماله، أو ولده، ونحو ذلك.
والفتنة العامة: ما يعمُّ شرُّه المجتمعَ ويضرُّه.
الفتنة : هي النازِلة التي تضرُّ الدين أو الدنيا؛ بذهاب دين المسلم بالكلية أو بنقصه، أو بذهاب دنياه بالكلية أو بنقصها.
والعِبرة بما بعد الفتنة، فإن انكشَفَت الفتنة المكروهة وقد سلِم للمسلم دينُه أو ازداد إيمانًا وخيرًا؛ فقد نجَّاه الله من شرٍّ عظيم وأثابَه ثواب الصابرين، وإن شكر الله على النِّعَم أثابه الله ثواب الشاكرين ...
عن سلمان -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم "عجبًا لأمر المؤمن إن أمره كله خير؛ إن أصابَتْه ضرَّاءُ صبَر فكان خيرًا له، وإن أصابَتْه سرَّاءُ شكرَ فكان خيرًا له". رواه مسلم.
والفتن الخاصة التي تنزل بالفرد يدفعها الله ويصرفها عنه بالصلاة، والتقوى، والصدقة، والدعاء، وترك المعاصي، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر.
قال حذيفة -رضي الله عنه- قال: كنا جلوسًا عند عمر -رضي الله عنه-، فقالأيُّكم يحفظُ قولَ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في الفتنة؟! قلتُ: أنا، قلتُ "فتنة الرجل في أهله وماله وولده وجاره تُكفِّرها الصلاة، والصوم، والصدقة، والأمرُ بالمعروف، والنهيُ عن المنكر". رواه البخاري.
والفتنة العامة التي يعُمُّ ضررُها الأمةَ يصرِفها الله -عزّ وجل- عن الأمة ويدفعُها باتِّقاء أسبابها، كما قال -تبارك وتعالىوَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ) [الأنفال: 25].
وأعظم ما يدفع الله به الفتن العامة والعقوبات النازِلة : الأمرُ بالمعروف والنهيُ عن المنكر، فهو حارِسُ المجتمع من كل شرٍّ ورذيلة، والمُرغِّب له في كل خيرٍ وفضيلة.
عن أبي بكر -رضي الله عنه- قال : يا أيها الناس: إنكم تقرؤون هذه الآية وتضعونها على غير موضعها يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ) [المائدة: 105]، وإنا سمعنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول "إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه أوشك أن يعُمَّهم الله بعقاب". رواه أبو داود، والترمذي، وقال: حديثٌ حسن صحيح.

وعن حذيفة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم "والذي نفسي بيده؛ لتأمرُنَّ بالمعروف، ولتنهوُنَّ عن المنكر، أو ليُوشِكنَّ الله يبعثُ عليكم عقابًا منه، ثم تدعونه فلا يستجيبُ لكم". رواه الترمذي.
والمجتمع الذي يسود فيه الأمرُ بالمعروف والنهيُ عن المنكر هو الذي يحفَظُه الله ويُنجيه من العقوبات المُدمِّرة، قال الله تعالىفَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ) [هود: 116]،
إذًا مَنْ أمر بالمعروف ونهى عن المنكر نجا، ومن ترك ذلك هلَك.
أيها المسلمون: نحنُ مُحارَبون في عقيدتنا التي هي سعادتنا في الدنيا والآخرة، ومُحارَبون في شبابنا الذين هم قِوامُ مجتمعنا، فصار يتكلَّم في العقيدة من لا صلة له بالعلم، ويُفتي من لاعلم له بالفقه، ويتكلَّم في مسائل الدين من لا تخصُّص له في علوم الشريعة، ويطعن في علماء الأمة الراسخين الذين تدور عليهم الفتوى، فيُصاب الإسلام بسهام الجهل، مع مايُصاب به من سِهام الكفر والنِّفاق.
كما أننا مُحارَبون في شبابنا فتمسخُ العقول، وتُدمِّر الأخلاق، وتُفسِد الحياة، وتُقطِّع أواصِر القُربى وصِلات المجتمع ووشائجه، وتهدِم اركان الإسلام في النفوس، 
والتذكُّر والإنابة جعلها الله من صفات أولي الألباب، قال -تبارك وتعالى ( إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ) [الرعد: 19]، وقال -تبارك وتعالىإِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِتَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ * وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لَا يُقْصِرُونَ) [الأعراف: 201، 202].
والغفلة والإصرار على الباطل من صفات المُعرِضين، والله -تبارك وتعالىبيَّن الحُجَّة وبيَّن للناس الطريق، فما عليك إلا أن تسلُك طريق اهل الخير من السلف والخلف 
 الخطبة الثانية:
فاتقوا الله -أيها المسلمون- حق التقوى، وتمسَّكوا من الإسلام بالعُروة الوُثقى، واطلبوا مرضاة الله -تبارك وتعالى- في السر والعلانية والنجوى، فإنه -تبارك وتعالى- يقولهُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ) [المذثر: 56]، أهلٌ أن يُتَّقى، وهو أهلٌ أن يُطاعَ فلا يُعصَى.
يقول ابن الجوزي "ما رأيت أعظم فتنة من مقاربة الفتنة، وقلَّ أن يقاربها إلا من يقع فيها، ومَن حام حول الحمى يوشك أن يقع فيه".
أيها المسلمون: إنه قد جاء الحديثُ عن النبي -صلى الله عليه وسلم- من حديث حذيفة -رضي الله تعالى عنه- قال: إن النبي -عليه الصلاة والسلام- قال "إن الفتن تُعرَضُ على القلوب كالحصير يُعرَضُ عودًا عُودًا، فأيُّ قلبٍ أُشرِبَها نُكِتَت فيه نُكتةٌ سوداء، وأيُّ قلبٍ أنكرَها فإنه تُنكَتُ فيه نُكتةٌ بيضاء، حتى تكون القلوب على قلبَيْن: قلب مثل الصفا أبيض لا تضرُّه فتنةٌ ما دامت السماوات والأرض، وقلب كالكوزِ مُجخِّيًا -أي: مائلاً-، لا يعرِفُ إلا ما أُشرِب من هواه، يرى الحسن قبيحًا والقبيحَ حسنًا".
فاتقوا الله أيها الناس. وجاء عن النبي -صلى الله عليه وسلم "لا يؤمن أحدُكم حتى يكون هواه تبَعًا لما جِئُتُ به".
فيا عباد الله: إن الفتن أخبر بها النبي -عليه الصلاة والسلام-، وإنها وقعت في العصر الأول بعد موت النبي -عليه الصلاة والسلام-، ولا تزال تظهر في كل زمان، ولكن الله -تبارك وتعالى- بيَّن لنا في كتابه كل شيء.
يقول عليٌّ -رضي الله عنه- لما سألوه عن الفتن، قالوا: والمخرجُ منها؟! قال " المخرجُ من الفتن كتابُ الله؛ فيه خبرُ ما قبلكم، ونبأُ ما بعدكم، فتمسَّكوا به". 
فيا أيها الناس: إن المخرج من كل فتنة: هو أن تعرِفَ الحق فيها، وأن تعرِفَ الباطل فيها، وأن تتمسَّك بالحق، وأن تكون مع أهل الحق المُفلِحين، وأن تترك الباطل وأن تكون محارباًا لحزب الشيطان الخاسرين.
ومن سبل النجاة منها: الالتجاء إلى الله ودعاؤه، والركون إليه، والاستعانة به، وسؤاله النجاة منها، وبهذا أمرنا النبي –صلى الله عليه وسلم-، فقال -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ  تَعَوَّذُوا بِاللَّهِ مِنَ الْفِتَنِ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ” (صحيح مسلم 2867).
ومن سبل النجاة منها، المبادرة إلى الأعمال الصالحة التي تكون سببًا لحفظ دين العبد ونجاته من الفتن، وقد جعل النبي –صلى الله عليه وسلم- العمل الصالح وقاية من الفتن، فقال –صلى الله عليه وسلم-: “بادروا بالأعمال فتنًا كقطع الليل المظلم؛ يصبح الرجل مؤمنًا، ويمسي كافرًا، أو يمسي مؤمنًا ويصبح كافرًا؛ يبيع دينه بعَرَض مِن الدنيا”(صحيح مسلم 118).

1

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق