إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

الجمعة، 10 مايو 2019

عظمة القران وفضائله

( عظمة القرآن وفضائله ) 
الْخُطْبَةُ الْأُولَى:
 أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ: رَوَى الْقُرْطُبِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ الْجَامِعِ لِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ بِسَنَدِهِ عَنْ يَحْيَى بْنِ أَكْثَمَ قَالَ: "كَانَ لِلْمَأْمُونِ -وَهُوَ أَمِيرٌ إِذْ ذَاكَ- مَجْلِسُ نَظَرٍ، فَدَخَلَ فِي جُمْلَةِ النَّاسِ رَجُلٌ يَهُودِيٌّ حَسَنُ الثَّوْبِ، حَسَنُ الْوَجْهِ، طَيِّبُ الرَّائِحَةِ، قَالَ: فَتَكَلَّمَ فَأَحْسَنَ الْكَلَامَ. قَالَ: فَلَمَّا أَنْ تَقَوَّضَ الْمَجْلِسُ دَعَاهُ الْمَأْمُونُ فَقَالَ لَهُ: إِسْرَائِيلِيٌّ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ لَهُأَسْلِمْ حَتَّى أَفْعَلَ بِكَ وَأَصْنَعَ، وَوَعَدَهُ. فَقَالَ: دِينِي وَدِينُ آبَائِي، ثُمَّ انْصَرَفَ الْيَهُودِيُّ.
 فَلَمَّا كَانَ بَعْدَ سَنَةٍ جَاءَنَا مُسْلِمًا، قَالَ: فَتَكَلَّمَ عَلَى الْفِقْهِ فَأَحْسَنَ الْكَلَامَ. فَلَمَّا أَنْ تَقَوَّضَ الْمَجْلِسُ دَعَاهُ الْمَأْمُونُ فَقَالَ لَهُ: أَلَسْتَ صَاحِبَنَا بِالْأَمْسِ؟ قَالَ لَهُ: بَلَى. قَالَ: فَمَا كَانَ سَبَبُ إِسْلَامِكَ؟ قَالَ: انْصَرَفْتُ مِنْ حَضْرَتِكَ، فَأَحْبَبْتُ أَنْ أَمْتَحِنَ هَذِهِ الْأَدْيَانَ، وَأَنَا مَعَ مَا تَرَانِي حَسَنُ الْخَطِّ، فَعَمِدْتُ إِلَى التَّوْرَاةِ فَكَتَبْتُ ثَلَاثَ نُسَخٍ، فَزِدْتُ فِيهَا وَنَقَصْتُ، وَأَدْخَلْتُهَا الْكَنِيسَفَاشْتُرِيَتْ مِنِّيوَعَمِدْتُ إِلَى الْإِنْجِيلِ فَكَتَبْتُ ثَلَاثَ نُسَخٍ، فَزِدْتُ فِيهَا وَنَقَصْتُ، وَأَدْخَلْتُهَا الْكنيسة فَاشْتُرِيَتْ مِنِّي.
 وَعَمِدْتُ إِلَى الْقُرْآنِ فَعَمِلْتُ ثَلَاثَ نُسَخٍ، وَزِدْتُ فِيهَا وَنَقَصْتُ، وَأَدْخَلْتُهَا إِلَى الْوَرَّاقِينَ فَتَصَفَّحُوهَا، فَلَمَّا أَنْ وَجَدُوا فِيهَا الزِّيَادَةَ وَالنُّقْصَانَ رَمَوْا بِهَا فَلَمْ يَشْتَرُوهَا، فَعَلِمْتُ أَنَّ هَذَا كِتَابٌ مَحْفُوظٌ، فَكَانَ هَذَا سَبَبَ إِسْلَامِي. "
 إِنَّهَا الْعَظَمَةُ الَّتِي أَبْقَاهَا الرَّحْمَنُ حُجَّةً بَاقِيَةً مَا بَقِيَ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ، فَدَعُونَا نَتَحَدَّثْ عَنْ عَظَمَةِ هَذَا الْقُرْآنِ،مُعْجِزَةً تَحَدَّى بِهَا الثَّقَلَيْنِ، فَأَذْعَنَ لِفَصَاحَتِهِ الْبُلَغَاءُ، وَانْبَهَرَ بِأَسْرَارِهِ الْعُلَمَاءُ, عَنِ عَظَمَةِ هَذَا الكتاب الَّذِي أَلَانَ بِهِ قُلُوبًا قَاسِيَةً، وَهَدَى بِهِ نُفُوسًا تَائِهَةً إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِي أَقْوَمُ(
 إِنَّهُ الْقُرْآنُ، أَبْهَرَ النَّاسَ بِإِعْجَازِهِ وَفَصَاحَتِهِ وَبَرَاعَةِ إِيجَازِهِ، فَدَانَتْ لَهُ الْقُلُوبُ, وَتَأَثَّرَتْ بِهِ النُّفُوسُ, وَخَضَعَتْ لَهُ الْمَشَاعِرُ,وَانْقَادَتْ لِسَمَاعِهِ الْأَسْمَاعُ.
 هَذَا ابْنُ الْخَطَّابِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَأَرْضَاهُ- كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ خَصْمًا عَنِيدًا، وَعَدُوًّا لَدُودًا لِلْإِسْلَامِ وَلِلنَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حَتَّى قِيلَ : " لَوْ أَسْلَمَ حِمَارُ آلِ الْخَطَّابِ مَا أَسْلَمَ عُمَرُ" فَمَا الَّذِي غَيَّرَهُ؟ وَمَنِ الَّذِي حَوَّلَهُ مِنَ النَّقِيضِ إِلَى النَّقِيضِ؟!
 إِنَّهُ الْقُرْآنُ الَّذِي قَرَأَ مِنْهُ عُمَرُ قَوْلَ الْحَقِّ  كما روي في بعض الاثار - ( طه مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى * إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى * تَنْزِيلًا مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَى * الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى * لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى * وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى * اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى) [طه: 1 – 8].
 فَانْدَهَشَ عُمَرُ لِهَذِهِ الْقَوَارِعِ وَالتَّنْزِيهِ وَالتَّعْظِيمِ, فَتَأَثَّرَ عُمَرُ، وَرَقَّ قَلْبُهُ، وَلَانَ صَدْرُهُحَتَّى عُرِفَ تَأْثِيرُ الْقُرْآنِ فِي وَجْهِهِ, ثُمَّ أَعْلَنَ بَعْدَهَا إِسْلَامَهُ.
وهذا النجاشي ملك الحبشة -رجل أعجمي ليس بعربي- سمع جعفر الطيار يقرأ عليه ﴿ كهيعص ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا ﴾ [مريم: 1 - 6] فلما سمع النجاشي هذه الآيات العظيمات بكى حتى أخضلت لحيته بدموعه ثم قال إن هذا -أي القرآن- والذي أنزل على عيسى -يقصد الإنجيل- يخرج من مشكاة واحدة

 يَا أَهْلَ الْإِيمَانِ: مَا أَجْمَلَ الْحَدِيثَ عَنِ الْقُرْآنِ فِي كُلِّ وَقْتٍ! وَلَكِنَّ أَجْمَلَهَا أَنْ نَتَذَاكَرَ الْقُرْآنَ فِي شَهْرِ الْقُرْآنِ، هَذَا الشَّهْرُ الَّذِي زَادَهُ الرَّحْمَنُ تَشْرِيفًا بِنُزُولِ الْقُرْآنِ فِيهِ شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ) [البقرة: 185] وَصَفَ اللَّهُ الْعَظِيمُ كِتَابَهُ الْعَظِيمَ بِأَوْصَافٍ عَالِيَهٍ، فَهُوَ كِتَابٌ عَظِيمٌ، حَكِيمٌمُبَارَكٌ، مُبِينٌ، نُورٌ وَهُدًى، شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ.
 هُوَ رَبِيعُ الْمُؤْمِنِينَ، وَحِدَاءُ الْقَانِتِينَ، مَا طَابَتِ الْحَيَاةُ إِلَّا مَعَهُ, وَلَا نَجَاةَ إِلَّا بِالِاسْتِمْسَاكِ بِهِ فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى) [طه: 123].
 أَنْزَلَهُ اللَّهُ مُعْجِزَةً إِلَى يَوْمِ الدِّينِ، وَتَحَدَّى بِهِ الثَّقَلَيْنِ, فَأَذْعَنَ لِفَصَاحَتِهِ الْبُلَغَاءُ، وَانْقَادَ لِحِكْمَتِهِ الْعُقَلَاءُ، وَانْبَهَرَ بِأَسْرَارِهِ الْعُلَمَاءُ، جَعَلَهُ اللَّهُ نُورًا، وَإِلَى النُّورِ يَهْدِي وَيُرْشِدُ.
 مَنْ رَامَ السَّعَادَةَ فِي الدَّارَيْنِ فَلْيَلْزَمْ مَا بَيْنَ دَفَّتَيْهِ، وَلْيَجْعَلْهُ سَمِيرَهُ وَأَنِيسَهُ، وَلْيَتَّخِذْهُ رَفِيقَاًوَجَلِيسَاً . قَدْ جَاوَزَتْ فَضَائِلُهُ كُلَّ فَضْلٍ، وَحَازَ أَهْلُهُ أَعْلَى نُزُلٍ، فَخَيْرُ النَّاسِ فِي دُنْيَا النَّاسِ هُمْ أَهْلُ الْقُرْآنِ "خَيْرُكُمْ مَنْ تَعَلَّمَ الْقُرْآنَ وَعَلَّمَهُ".
 تِلَاوَتُهُ كُلُّهَا خَيْرٌ، وَلَا تَأْتِي إِلَّا بِخَيْرٍ "الْمَاهِرُ بِالْقُرْآنِ مَعَ السَّفَرَةِ الْكِرَامِ الْبَرَرَةِ, وَالَّذِي يَقْرَأُ الْقُرْآنَ وَيَتَتَعْتَعُ فِيهِ وَهُوَ عَلَيْهِ شَاقٌّ فَلَهُ أَجْرَانِ".
 حَازَ الْأَجْرَ الْعَظِيمَ مَنْ قَرَأَ حُرُوفَهُ وَكَلِمَاتِهِ، فَكَيْفَ بِسُوَرِهِ وَأَجْزَائِهِ" مَنْ قَرَأَ حَرْفًا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ فَلَهُ بِهِ حَسَنَةٌ، وَالْحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا. لَا أَقُولُ: الم حَرْفٌ، وَلَكِنْ: أَلِفٌ حَرْفٌ، وَلَامٌ حَرْفٌ، وَمِيمٌ حَرْفٌ".
 هَذَا الْكِتَابُ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ يَأْتِي يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ شَفِيعًا لِأَصْحَابِهِ "اقْرَؤُوا الْقُرْآنَ فَإِنَّهُ يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ شَفِيعًا لِأَصْحَابِهِ, اقْرَؤُوا الزَّهْرَاوَيْنِ الْبَقَرَةَ وَسُورَةَ آلِ عِمْرَانَ؛ فَإِنَّهُمَا تَأْتِيَانِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَأَنَّهُمَا غَمَامَتَانِ، أَوْ كَأَنَّهُمَا غَيَايَتَانِ، أَوْ كَأَنَّهُمَا فِرْقَانِ مِنْ طَيْرٍ صَوَافَّ تُحَاجَّانِ عَنْ أَصْحَابِهِمَااقْرَؤُوا سُورَةَ الْبَقَرَةِ؛ فَإِنَّ أَخْذَهَا بَرَكَةٌ، وَتَرْكَهَا حَسْرَةٌ، وَلَا تَسْتَطِيعُهَا الْبَطَلَةُ".
 شَرَفٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَرِفْعَةٌ وَكَرَامَةٌ أَعَدَّهَا اللَّهُ لِأَهْلِ الْقُرْآنِ لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ) [الأنبياء: 10]. وَفِي الْحَدِيثِ "إِنَّ اللَّهَ لَيَرْفَعُ بِهَذَا الْقُرْآنِ أَقْوَامًا وَيَضَعُ آخَرِينَ".
 أَهْلُ الْقُرْآنِ هُمْ أَكْثَرُ النَّاسِ اغْتِبَاطًا يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ "يُقَالُ لِقَارِئِ الْقُرْآنِ: اقْرَأْ وَارْقَ وَرَتِّلْ كَمَا كُنْتَ تُرَتِّلُ فِي الدُّنْيَا؛ فَإِنَّ مَنْزِلَتَكَ عِنْدَ آخِرِ آيَةٍ تَقْرَؤُهَا".
الصيام والقرآن يشفعان للعبد يوم القيامة؛لحديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما،أن رسول الله r قال:((الصيام والقرآن يشفعان للعبد يوم القيامة،يقول الصيام:أي ربِّ منعته الطعام والشهوات بالنهار فشفعني فيه،ويقول القرآن:منعته النوم بالليل فشفعني فيه))، قال:((فيشفعان))
قراءة آية واحدة في الصلاة خير من حمر النعم؛ لحديث أبي هريرة t، قال:قال رسول الله r:((أيُحِبُّ أحَدُكُمْ إذا رجع إلى أهله أن يجد فيه ثلاثَ خَلِفَاتٍ- الحامل من النوق وهي من أفضل المال عند العرب - عظامٍ سمانٍ؟ ))،قلنا:نعم.قال: (( ثلاث آيات يقرأُ بهنَّ أحدكم في صلاته خير له من ثلاثِ خلفاتٍ عظامٍ سمان)) 
من قرأ في صلاته في ليلة مائة آية كتب من القانتين؛ لحديث أبي هريرة t، قال: قال رسول الله r((من حافظ على هؤلاء الصلوات المكتوبات لم يُكتَبْ من الغافلين، ومن قرأ في ليلة مائة آية لم يُكتَب من الغافلين أو كُتب من القانتين)).
يُحلَّى صاحب القرآن بتاج وحُلَّة الكرامة ويرضى الله عنه؛ لحديث أبي هريرة t عن النبي rقال: ((يَجِيءُ القرآن يوم القيامة فيقول: يا رب حلِّه فيُلبس تاج الكرامة، ثم يقول: يا ربِّ زده فيُلبس حلّة الكرامة، ثم يقول: يا ربّ ارضَ عنه فيرضى عنه، فيقال: اقرأ وارقَ وتُزاد بكل آية حسنة)).
حامل القرآن يُعطَى الملك بيمينه، والخلد بشماله، ويُوضَع على رأسه تاج الوَقار، ويُكسَى والداه حلتين لا تقوم لهما الدنيا وما فيهما؛ لحديث أبي هريرة t، قال: قال رسول الله r((يَجِيءُ القرآن يوم القيامة كالرجل الشاحب يقول لصاحبه: هل تعرفني؟ أنا الذي كنت أسهر ليلك وأظمئ هواجرك، وإنَّ كلّ تاجر من وراء تجارته، وأنا لك اليوم من وراء كل تاجر، فَيُعطَى الملك بيمينه، والخلد بشماله، ويُوضَع على رأسه تاج الوقار، ويُكسى والداه حلتان لا تقوم لهما الدنيا وما فيهما، فيقولان: يا ربِّ أنَّى لنا هذا؟ فيُقال لهما: بتعليم ولدكما القرآن))قال  الألباني عن حديث أبي هريرة في سلسلة الأحاديث الصحيحة، برقم 2829: ((الحديث حسن أو صحيح؛ لأن له شاهداً من حديث بريدة بن الحصيب مرفوعاً بتمامة..)). [وعن بريدة، قال: قال رسول الله r((من قرأ القرآن وتعلمه وعمل به أُلبس يوم القيامة تاجاً من نور ضوؤه مثل ضوء الشمس ويُكسى والداه حُلَّتَين لا يقوم بهما الدنيا، فيقولان بمَ كسينا هذا فيقال بأخذ ولدكما القرآن)). [الحاكم، 1/1568، وحسنه الألباني لغيره في صحيح الترغيب والترهيب2/169].
أَيُّهَا الصَّائِمُونَ: لَقَدْ عَرَفَ عَظَمَةَ فَضَائِلِ كَلَامِ رَبِّ الْعَالَمِينَ سَلَفُ هَذِهِ الْأُمَّةِ، فَعَجَّتْ بِهِ أَلْسِنَتُهُمْ, وَرَقَّتْ لَهُ قُلُوبُهُمْ، وَاقْشَعَرَّتْ مِنْ وَعْدِهِ وَوَعِيدِهِ جُلُودُهُمْ.
 نَعَمْ، لَقَدْ قَرَؤُوا حُرُوفَهُ، وَأَقَامُوا حُدُودَهُ، وَتَدَبَّرُوا مَعَانِيَهُ، وَتَفَكَّرُوا فِي عَجَائِبِهِ، وَعَمِلُوا بِمُحْكَمِهِ، وَآمَنُوا بِمُتَشَابَهِهِ، فَأَصْبَحُوا خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ.
 كَانَ الْوَاحِدُ مِنْهُمْ يَسِيرُ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَهُوَ يَحْمِلُ أَخْلَاقَ الْقُرْآنِ، وَآدَابَ الْقُرْآنِ, وَمَبَادِئَ الْقُرْآنِفَانْتَشَرَ الْإِسْلَامُ، وَدَخَلَ النَّاسُ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا بِبَرَكَةِ هَذَا الْقُرْآنِ، الَّذِي هَذَّبَ أَهْلَهُ، وَزَكَّى نُفُوسَهُمْ، وَقَوَّمَ سُلُوكَهُمْ، فَجَعَلَهُمْ أُسْوَةً وَمَثَلًا بَاقِيًا.
 أَمَّا أَخْبَارُهُمْ مَعَ كِتَابِ اللَّهِ فَشَيْءٌ لَا تُطِيقُهُ هِمَمُ أَبْنَاءِ الْيَوْمِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ، وَقَلِيلٌ مَا هُمْ.
 كَانَ لَهُمْ مَعَ كِتَابِ اللَّهِ شَأْنٌ، وَأَيُّ شَأْنٍ؟! فَمَا أَحْوَجَنَا أَنْ نُعَطِّرَ أَسْمَاعَنَا بِمِثْلِ هَذِهِ النَّمَاذِجِ الْمُشْرِقَةِ وَالصُّوَرِ الْمُبْهِجَةِ! لَعَلَّ الْهِمَمَ تَسْتَيْقِظُ مِنْ سُبَاتِهَا، وَحَتَّى لَا يَسْتَكْثِرَ أَحَدٌ مِنَّا طَاعَتَهُ إِذَا وَقَفَ عَلَى طَاعَةِ الْقَوْمِ وَعِبَادَاتِهِمْ.
 فَهَذَا قُدْوَتُنَا وَحَبِيبُنَا رَسُولُ الْبَشَرِيَّةِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَانَ لَهَّاجًا بِالْقُرْآنِ، قَوَّامًا بِهِ بِالْأَسْحَارِ، حَتَّى تَفَطَّرَتْ مِنْ طُولِ قِيَامِهِ قَدَمَاهُيَصِفُ لَنَا حُذَيْفَةُ بْنُ الْيَمَانِ طُولَ قِيَامِهِ فِي رَمَضَانَ فَيَقُولُ: " قُمْتُ مَعَهُ لَيْلَةً فَقَرَأَ بِالْبَقَرَةِ، ثُمَّ النِّسَاءَ، ثُمَّ آلَ عِمْرَانَ لَا يَمُرُّ بِآيَةِ تَخْوِيفٍ إِلَّا وَقَفَ وَسَأَلَ".
كَانَ لِلْقُرْآنِ الْكَرِيمِ مَعَ النَّبِيِّ الْكَرِيمِ فِي هَذَا الشَّهْرِ الْكَرِيمِ مَزِيدُ اعْتِنَاءٍ وَاهْتِمَامٍ, فَكَانَ لَهُ مَوْعِدٌ مَعَ جِبْرِيلَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- فِي رَمَضَانَ، يُدَارِسُ عَلَيْهِ الْقُرْآنَ, وَفِي آخِرِ عَامٍ مِنْ حَيَاتِهِ عَرَضَ عَلَيْهِ الْقُرْآنَ مَرَّتَيْنِ.
 وَهَذَا الْخَلِيفَةُ الصَّالِحُ الرَّاشِدُ الَّذِي كَانَتْ تَسْتَحْيِي مِنْهُ مَلَائِكَةُ الرَّحْمَنِ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَصح عنه أنه ختم القرآن في ركعة ..وَمِنْ مَأْثُورِ قَوْلِهِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ " لَوْ طَهُرَتْ قُلُوبُكُمْ مَا شَبِعْتُمْ مِنْ كَلَامِ رَبِّكُمْ" وَوَدَّعَ دُنْيَاهُ قَتِيلًا، وَسَقَطَ مُضَرَّجًا بِدِمَائِهِ وَالْقُرْآنُ بَيْنَ يَدَيْهِ.
وقال عبد الله بن مسعود t((من أحب القرآن فهو يحب الله ورسوله))
وقال عبد الله بن مسعود t((من أراد العلم، فليقرأ القرآن؛ فإن فيه علم الأولّين والآخرين))
وَهَذَا الْأَسْوَدُ بْنُ يَزِيدَ النَّخَعِيُّ أَحَدُ أَئِمَّةِ التَّابِعِينَ، كَانَ يَخْتِمُ الْقُرْآنَ فِي كُلِّ لَيْلَتَيْنِ.
 وَأَمَّا الْعَلَمُ الْهُمَامُ الْبَصْرِيُّ قَتَادَةُ بْنُ دِعَامَةَ السَّدُوسِيُّ, فَكَانَ فِي عَامِهِ كُلِّهِ يَخْتِمُ الْقُرْآنَ فِي كُلِّ جُمُعَةٍ، فَإِذَا دَخَلَ رَمَضَانُ خَتَمَهُ كُلَّ ثَلَاثِ لَيَالٍ، فَإِذَا دَخَلَتِ الْعَشْرُ خَتَمَهُ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ.
 وَهَذَا الْإِمَامُ الْحَافِظُ الزَّاهِدُ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ الْبُخَارِيُّ, كَانَ يَخْتِمُ الْقُرْآنَ فِي رَمَضَانَ كُلَّ يَوْمٍ خَتْمَةً، وَيَخْتِمُهُ كُلَّ ثَلَاثِ لَيَالٍ خَتْمَةً أُخْرَى, فَكَانَ يَصْفُو لَهُ أَرْبَعُونَ خَتْمَةً خِلَالَ شَهْرِ رَمَضَانَ.
 أَمَّا حَمْزَةُ بْنُ حَبِيبٍ الزَّيَّاتُ أَحَدُ الْقُرَّاءِ السَّبْعَةِ إِمَامٌ مَشْهُودٌ لَهُ بِالتُّقَى وَالْعِبَادَةِ, يَقُولُ: "نَظَرْتُ بِالْمُصْحَفِ حَتَّى خَشِيتُ أَنْ يَذْهَبَ بَصَرِي".
 وَهَذَا أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ إِدْرِيسَ الْأَوْدِيُّ، حَضَرَتْهُ مَنِيَّتُهُ فَبَكَتْ عَلَى رَأْسِهِ بُنَيَّتُهُ, فَقَالَ: "لَا تَبْكِ، فَقَدْ خَتَمْتُ الْقُرْآنَ فِي هَذَا الْبَيْتِ أَرْبَعَةَ آلَافِ خَتْمَةٍ".
قال ابو هريرة رضي الله عنه : " إن البيت الذى يتلى فيه القرآن اتسع بأهله وكثر خيرهوحضرته الملائكة وخرجت منه الشياطين، وإن البيت الذي لايتلى فيه كتاب الله عز وجل ضاق بأهله  وقل خيره وخرجت منه الملائكة وحضرته الشياطين"
الْخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ:
من اتبَع القرآنَ نالَه الهُدى، ومن أعرضَ عنه ضلَّ في الرَّدَى، قال – سبحانه فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى * وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى) [طه: 123، 124].
 وكما أن القرآن يرفعُ صاحبَه فإنه يضعُ من عاداه، قال – عليه الصلاة والسلام -: « إن الله يرفعُ بهذا الكتاب أقوامًا ويضعُ به آخرين» (رواه مسلم).
 وكلامُ الله عزيزٌ عظيم، من أنكرَ حرفًا منه أو هزلَ به كفر، قال – سبحانه قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ) [التوبة: 65، 66]. ولم يسخَر أحدٌ بكتاب الله أو أهله أو تعليمه إلا أذلَّه الله.  فحقيقٌ بالمُسلم أن ينصُر كتابَ ربِّه ويعتزَّ به؛ لينالَ أعلى الدرجات.
فَيَا إِخْوَةَ الْإِيمَانِ: هَا هُوَ شَهْرُكُمْ قَدْ بدأت أَيَّامُهُ, فَسَارِعُوا وَسَابِقُوا إِلَى اغْتِنَامِ ْ لَيَالِيهِ وَاسْتِدْرَاكِ نَفَحَاتِهِ وَخَيْرَاتِهِ.
 مَنْ كَانَ مِنْكُمْ مُحْسِنًا فَيَزْدَدْ إِحْسَانًا, وَمَنْ كَانَ غَافِلًا مُقَصِّرًا فَلْيُقْصِرْ. وَرَغِمَ أَنْفُ رَجُلٍ دَخَلَ عَلَيْهِ رَمَضَانُ ثُمَّ انْسَلَخَ فَلَمْ يُغْفَرْ لَهُ، قَالَهَا الْمُصْطَفَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
 إِخْوَةَ الْإِيمَانِ: نُفُوسُنَا إِذَا لَمْ تُقْبِلْ عَلَى الطَّاعَةِ وَالْقُرْآنِ فِي شَهْرِ الرَّحْمَةِ وَالْغُفْرَانِ حَرِيَّةٌ بِالْمُحَاسَبَةِ وَالْمُرَاجَعَةِ, وَإِنَّ الْقُلُوبَ الَّتِي لَا تُحَرِّكُهَا مَوَاعِظُ الْقُرْآنِ وَوَعْدُ الرَّحْمَنِ حَرِيَّةٌ أَنْ تَقِفَ مَعَ ذَاتِهَا وَقْفَةَ تَقْرِيعٍ وَمُعَاتَبَةٍ.
 يَا أُمَّةَ الْقُرْآنِ: كَمْ نَحْنُ بِحَاجَةٍ دَائِمًا أَنْ نُذَكِّرَ أَنْفُسَنَا بِمَدَى صِلَتِنَا بِالْقُرْآنِ! كَمْ نَحْنُ بِحَاجَةٍ مَلِيًّا أَنْ نَعْرِضَ أَعْمَالَنَا عَلَى هِدَايَاتِ الْقُرْآنِ! هَلَّا سَأَلْنَا أَنْفُسَنَا عَنْ أَثَرِ الْقُرْآنِ فِي أَخْلَاقِنَا وَتَعَامُلَاتِنَا، وَصَلَاحِنَا وَخَشْيَتِنَا لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ) [الحشر: 21]؟!
 هَلَّا سَأَلْنَا أَنْفُسَنَا عَنِ أَثَرِ الْقُرْآنِ فِي تَعْظِيمِنَا لِحُرُمَاتِ اللَّهِ, وَوُقُوفِنَا عِنْدَ حُدُودِ اللَّهِ؟!
 فَيَا مَنْ قَصَّرَ مَعَ كِتَابِ رَبِّهِ – وَكُلُّنَا لَهُ نَصِيبٌ مِنْ هَذَا التَّقْصِيرِ- الْبِدَارَ الْبِدَارَ فِي التِّجَارَةِ مَعَ الْقُرْآنِ! لِنَجْعَلْ هَذِهِ الْأَيَّامَ نُقْطَةَ انْطِلَاقٍ مَعَ الْقُرْآنِ, وَبِدَايَةَ الْمُصَالَحَةِ مَعَ الْهُجْرَانِ. لِنَأْخُذْ عَلَى أَنْفُسِنَا أَنْ يَكُونَ لَنَا وِرْدٌ يَوْمِيٌّ مَعَ كَلَامِ رَبِّنَا, وَلْنَجْعَلْ ذَلِكَ مِنْ أَسَاسِيَّاتِ يَوْمِنَا وَأَوَائِلِ اهْتِمَامِنَا, مَعَ التَّوَاصِي عَلَى تَعَلُّمِ كِتَابِ اللَّهِ وَتَعْلِيمِهِ وَنُصْرَتِهِ، وَالدَّعْوَةِ إِلَيْهِ بِالنَّفْسِ وَالْمَقَالِ وَالْعِلْمِ وَالْحَالِ, فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَبِالْمَالِ الْحَلَالِ، فَالدَّالُّ عَلَى الْخَيْرِ كَفَاعِلِهِ, وَفِي نُصُوصِ السُّنَّةِ"مَنْ جَهَّزَ غَازِيًا فَقَدْ غَزَا وَفِي مُحْكَمِ التَّنْزِيلِوَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى) [المائدة: 2].
 يَا أُمَّةَ الْقُرْآنِ: هَذَا شَهْرُ الْقُرْآنِ، فَاسْتَنْهِضُوا الْهِمَمَ لِلْقُرْآنِ، وَحَرِّكُوا الْقُلُوبَ لِلْقُرْآنِ, فَذَاكَ كَسْبٌ عَظِيمٌ، وَنَفْحَةٌ مُبَارَكَةٌ مِنْ رَبٍّ كَرِيمٍ، وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ, وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا، وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ.

1

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق